ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين :
( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ) . .
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها ، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها ؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين . لأنهم محجوبون لا يدركون . وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها ، ومن ثم هم يشفقون ويخافون ، وينتظرونها بوجل وخشية ، وهم يعرفون ما هي حين تكون .
وإنها لحق . وإنهم ليعلمون أنها الحق . وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون .
( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) . .
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا ، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد . .
{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } استعجال استهزاء وإنكار . { والذين آمنوا مشفقون منها } خائفون من قيامها مع اعتناء بها ؛ أنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم ؛ من الإشفاق وهو عناية مشوبة بخوف ، لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه . فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر ؛ كما في قوله تعالى : " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " {[305]} .
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا } عنادا وتكذيبا ، وتعجيزا لربهم . { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون ، لإيمانهم بها ، وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالأعمال ، وخوفهم ، لمعرفتهم بربهم ، أن لا تكون أعمالهم منجية لهم ولا مسعدة ، ولهذا قال : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه { أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ } أي : بعد ما امتروا فيها ، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد ، أي : معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب ، بل في غاية البعد عن الحق ، وأيُّ بعد أبعد ممن كذب بالدار التي هي الدار على الحقيقة ، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد ، وهي دار الجزاء التي يظهر الله فيها عدله وفضله وإنما هذه الدار بالنسبة إليها ، كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها ، وهي دار عبور وممر ، لا محل استقرار .
فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية ، حيث رأوها وشاهدوها ، وكذبوا بالدار الآخرة ، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية ، والرسل الكرام وأتباعهم ، الذين هم أكمل الخلق عقولا ، وأغزرهم علما ، وأعظمهم فطنة وفهما .
قوله تعالى : " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " يعني على طريق الاستهزاء ، ظنا منهم أنها غير آتية ، أو إيهاما للضعفة أنها لا تكون . " والذين آمنوا مشفقون منها " أي خائفون وجلون لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة ، كما قال : " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " {[13485]} [ المؤمنون : 60 ] . " ويعلمون أنها الحق " أي التي لا شك فيها . " ألا إن الذين يمارون في الساعة " أي يشكون ويخاصمون في قيام الساعة . " لفي ضلال بعيد " أي عن الحق وطريق الاعتبار ؛ إذ لو تذكروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا ، قادر على أن يبعثهم .
ولما تصور بهذا قربها مشاراً بالتعبير بلعل إلى أن حال المستعجل بها حال المترجي لشيء محبوب وهو جهل منه عظيم ، شرع في تفصيل الناس في أمرها فقال مشيراً إلى أنه ينبغي للعاقل الاستعداد لها للخلاص في وقتها لظهور دلائلها من غير بحث عن قربها أو بعدها ، فإنه لا بد من كونها { يستعجل بها } أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها { الذين لا يؤمنون بها } أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل ، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته .
ولما دل على جهل الكافرين ، دل على أضدادهم فقال : { والذين آمنوا } وإن كانوا في أول درجات الإيمان { مشفقون } أي خائفون خوفاً عظيماً { منها } لأن الله هداهم بإيمانهم ، فصارت صدورهم معادن المعارف ، وقلوبهم منابع الأنوار ، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار ، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار . ولما قدم الإشفاق تنبيهاً على أن العاقل ينبغي أن يخشى ما يمكن وقوعه ، قال : { ويعلمون أنها الحق } إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها ، فهم لا يستعجلون بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والإشفاق ثانيا دليلاً عل حذف ضده أولاً . قال ابن كثير : وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه : يا محمد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من صوته " ماذم " فقال : متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه : " ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟ " فقال : حب الله ورسوله ، فقال : " أنت مع من أحببت " قال ابن كثير : فقوله في الحديث " المرء مع من أحب " متواتر لا محالة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة ، بل أمره بالاستعداد لها - انتهى ، وهو مشروط بالبراءة من أعداء الله بدليل قصة أبي طالب فإنه لم ينفعه حب الولي نفعاً تاماً بدون البراءة من العدو .
ولما أعلم بتعريف الحق أنها ثابتة كاملاً لا انقضاء له أصلاً ولا زوال لآثارها ، أنتج قوله مؤكداً معظماً في مقابلة إنكارهم : { ألا إن الذين يمارون } أي يظهرون شكهم في معرض اللجاجة الشديدة طلباً لظهور شك غيرهم من : مريت الناقة - إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لتستخرج ما عساه يكون فيها من اللبن { في الساعة } أي القيامة وما تحتوي عليه { لفي ضلال } أي ذهاب جائر عن الحق { بعيد * } جداً عن الصواب ، فإن لها من الأدلة الظاهرة في العقل المؤيد بجازم النقل ما ألحقها حال غيابها بالمحسوسات لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً .