في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ} (107)

69

فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام . واحتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها

. وأكرمها كما أكرم أباها . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ} (107)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ"... والفدية: الجزاء، يقول: جزيناه بأن جعلنا مكان ذبحه ذبح كبش عظيم، وأنقذناه من الذبح...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

الذِّبح: المهيأ لأن يُذبح.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{عظيم} خمسة تأويلات:

...

...

...

الثاني: لأنه ذبح بحق، قاله الحسن.

...

...

...

الرابع: لأنه عظيم البركة.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"وفديناه" ولد إبراهيم "بذبح عظيم"، فالفداء: جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه...

العظيم هو الكبير.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{عظِيمٌ} ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحي.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«العظيم» لجري السنة، وكونه ديناً باقياً آخر الدهر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه، ومن البشارة بالجزاء، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام، وهو يعالج إتلافه، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً لأن الفادي من أعطى الفداء، وهو ما يدفع لفكاك الأسير، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال: {وفديناه} أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له {بذبح} أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح، وهو كبش من الجنة، قيل: إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه {عظيم} أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وجملة {وفديناهُ} يظهر أنها من الكلام الذي خاطب الله به إبراهيم.

والمعنى: وقد فدينا ابنَك بذبح عظيم ولولا هذا التقدير تكون حكاية نداء الله إبراهيم غير مشتملة على المقصود من النداء وهو إبطال الأمر بذبح الغلام.

والفِدَى والفداء: إعطاء شيء بدلاً عن حق للمعطَى، ويطلق على الشيء المفدَى به من إطلاق المصدر على المفعول. وأسند الفداء إلى الله لأنه الآذِن به، فهو مجاز عقلي، فإن الله أوحى إلى إبراهيم أن يذبح الكبش فداء عن ذبح ابنه وإبراهيم هو الفادي بإذن الله، وابن إبراهيم مُفْدىً.

والذِبح بكسر الذال: المذبوح ووزن فِعل بكسر الفاء وسكون عين الكلمة يكثر أن يكون بمعنى المفعول مما اشتق منه مثل: الحِب والطِحن والعِدل.

ووصفه ب {عَظِيمٍ} بمعنى شرف قدر هذا الذِبح، وهو أن الله فدَى به ابن رسولٍ وأبقى به من سيكون رسولاً فعِظمه بعظم أثره، ولأنه سخره الله لإِبراهيم في ذلك الوقت وذلك المكان.

وقد أشارت هذه الآيات إلى قصة الذبيح ولم يسمه القرآن لعله لئلا يثير خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيين الذبيح مِن ولدَيْ إبراهيم، وكان المقصد تألف أهل الكتاب لإِقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديق القرآن، ولم يكن ثَمة مقصد مهمّ يتعلق بتعيين الذبيح ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه، وأمارة ذلك أن القرآن سمّى إسماعيل في مواضع غيرِ قصة الذبح وسمَّى إسحاق في مواضع، ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لُوط، وذكر اسمَيْ إسماعيل وإسحاق أنهما وُهبا له على الكِبر ولم يسمّ أحداً في قصة الذبح قصداً للإِبهام مع عدم فوات المقصود من الفضل لأن المقصود من القصة التنويه بشأن إبراهيم فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويهٌ عظيم بشأن إبراهيم وقال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم "روى الحاكم في « المستدرك» عن معاوية بن أبي سفيان أن أحد الأعراب قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعني أنه من ولد إسماعيل وهو الذبيح وأن أباه عبدَ الله بن عَبد المطلب كان أبوه عبد المطلب نذر: لئن رزقه الله بعشرة بنين أن يذبح العاشر للكعبة، فلما وُلد عبد الله وهو العاشر عزَم عبد المطلب على الوفاء بنذره، فكلّمه كبراء أهل البطاح أن يعْدِلَه بعشرة من الإِبل وأن يستقسم بالأزلام عليه وعلى الإِبل فإن خرج سَهم الإِبل نحرها، ففعل فخرج سهم عبد الله، فقالوا: أرضِ الآلهة، أي الآلهة التي في الكعبة يومئذٍ، فزاد عشرة من الإِبل واستقسم فخرج سهم عبد الله، فلم يزالوا يقولون: أرْضِ الآلهة ويزيد عبد المطلب عشرة من الإِبل ويعيد الاستقسام ويخرج سهم عبد الله إلى أن بلغ مائة من الإِبل واستقسم عليهما فخرج سَهم الإِبل فقالوا رَضِيتْ الآلهة فذبحها فداءً عنه.

وكانت منقبة لعبد المطلب ولابنه أبي النبي صلى الله عليه وسلم تشبه منقبة جدّه إبراهيم وإن كانت جرت على أحوال الجاهلية فإنها يستخلص منها غيرُ ما حفّ بها من الأعراض الباطلة، وكان الزمان زمان فترة لا شريعةَ فيه ولم يَرد في السنة الصحيحة ما يخالف هذا...

والتأمُّل في هذه الآية يقوّي الظن بأن الذبيح إسماعيل، فإنه ظاهر قوي في أن المأمور بذبحه هو الغلام الحليم في قوله: {فبشَّرناهُ بغلامٍ حَليمٍ} وأنه هو الذي سأل إبراهيمُ ربه أن يهب له فساقت الآية قصة الابتلاء بذبح هذا الغلام الحليم الموهوب لإِبراهيم، ثم أعقبت قصته بقوله تعالى: {وبشرناهُ بإسحاق نبيئاً من الصالِحِين} [الصافات: 112]، وهذا قريب من دلالة النص على أن إسحاق هو غير الغلام الحليم الذي مضى الكلام على قصته لأن الظاهر أن قوله: {وبشرناه} [الصافات: 112] بشارة ثانية وأن ذكر اسم إسحاق يدل على أنه غير الغلام الحليم الذي أجريت عليه الضمائر المتقدمة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إحدى دلائل عظمة هذا الذبح، هو اتساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن، وحالياً يذبح في كلّ عام أكثر من مليون أضحية تيمنّاً بذلك الذبح العظيم وإحياء لذلك العمل العظيم.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ} (107)

السابعة- قوله تعالى : " وفديناه بذبح عظيم " الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح . كالطحن اسم المطحون . والذبح بالفتح المصدر . " عظيم " أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة . وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح . أو لأنه متقبل . قال النحاس : عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف . وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف ، أو المتقبل . وقال ابن عباس : هو الكبش الذي تقرب به هابيل ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل . وعنه أيضا : أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا . وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه ، وهذا قول علي رصي الله عنه . فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه . وقال : يا بني اليوم وهبت لي . وقال أبو إسحاق الزجاج : قد قيل أنه فدي بوعل ، والوعل : التيس الجبلي . وأهل التفسير على أنه فدي بكبش .

الثامنة- في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر . وهذا مذهب مالك وأصحابه . قالوا : أفضل الضحايا الفحول من الضأن ، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز ، وفحول المعز خير من إناثها ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر . وحجتهم قوله سبحانه وتعالى : " وفديناه بذبح عظيم " أي ضخم الجثة سمين ، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة . وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل : إني نذرت أن أنحر ابني ؟ فقال : يجزيك كبش سمين ، ثم قرأ : " وفديناه بذبح عظيم " . وقال بعضهم : لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق . وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين . وأكثر ما ضحي به الكباش . وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال : الذبح العظيم الشاة .

التاسعة- واختلفوا أيهما أفضل : الأضحية أو الصدقة بثمنها . فقال مالك وأصحابه : الضحية أفضل إلا بمنى ؛ لأنه ليس موضع الأضحية . حكاه أبو عمر . وقال ابن المنذر : روينا عن بلال أنه قال : ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه - هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به . وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل . وبه قال مالك وأبو ثور . وفيه قول ثان : إن الضحية أفضل ، هذا قول ربيعة وأبي الزناد . وبه قال أصحاب الرأي . زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا : الضحية أفضل من الصدقة ؛ لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد . ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل . وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله . قال أبو عمر : وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم ) قال أبو عمر : وهو حديث غريب من حديث مالك . وعن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة ) ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد . وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا ) قال : وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم . وهذا حديث حسن .

العاشرة- الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف . وقال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما ، ويقول : من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس . قال أبو عمر : ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم ؛ لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض ، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم ؛ لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته ، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم . وقد حكى الطحاوي في مختصره : وقال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ، ولا تجب على المسافر . قال : ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه . وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا : ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها . قال : وبه نأخذ . قال أبو عمر : وهذا قول مالك ؛ قال : لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما ، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى . وقال الإمام الشافعي : هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة . وقد احتج من أوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى ؛ لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة . احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى ) قالوا : فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضي . وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال .

الحادية عشرة- والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية : وهي الضأن والمعز والإبل والبقر . قال ابن المنذر : وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال : يضحى ببقرة الوحش عن سبعة ، وبالظبي عن رجل . وقال الإمام الشافعي : لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية ، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية . وقال أصحاب الرأي : جائز ؛ لأن ولدها بمنزلة أمه . وقال أبو ثور : يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام .

الثانية عشرة- وقد مضى في سورة " الحج " {[13287]} الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : ( ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما ) في رواية قال : ( ويقول بسم الله والله أكبر ) وقد مضى في آخر " الأنعام " {[13288]} حديث عمران بن حصين ، ومضى في " المائدة " {[13289]} القول في التذكية وبيانها وما يذكى به ، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى . وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به ) فقال لها : ( يا عائشة هلمي المدية ) ثم قال : ( اشحذيها بحجر ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : ( بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ) ثم ضحى به . وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية : بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان . وقال مالك : إن فعل ذلك فحسن ، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه . وقال الشافعي : والتسمية على الذبيحة بسم الله ، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله ، أو صلى على محمد عليه السلام لم أكرهه ، أو قال اللهم تقبل مني ، أو قال تقبل من فلان فلا بأس . وقال النعمان : يكره أن يذكر مع اسم الله غيره ، يكره أن يقول : اللهم تقبل من فلان عند الذبح . وقال : لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح . وحديث عائشة يرد هذا القول . وقد تقدم أن إبراهيم عليه السلام قال لما أراد ذبح ابنه : الله أكبر والحمد لله . فبقي سنة .

الثالثة عشرة- روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال : ( أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي ){[13290]} لفظ مالك ولا خلاف فيه . واختلف في اليسير من ذلك . وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف{[13291]} العين والأذن وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء . قال : والمقابلة ما قطع طرف أذنها ، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن ، والشرقاء المشقوقة ، والخرقاء المثقوبة ، قال هذا حديث حسن صحيح . وفي الموطأ عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن والتي نقص من خلقها . قال مالك : وهذا أحب ما سمعت إلي . قال القتبي : لم تسنن أي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا . وهذا كما يقال : فلان لم يلبن أي لم يعط لبنا ، ولم يسمن أي لم يعط سمنا ، ولم يعسل أي لم يعط عسلا{[13292]} . وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء . قال أبو عمر : ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة ، فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها ؛ لأنه عيب غير خفيف . والنقصان كله مكروه ، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه . وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( استشرقوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ) ذكره الزمخشري .

الرابعة عشر- ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه . قاله ابن عباس . وعنه رواية أخرى : ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه ، روى الروايتين عنه الشعبي . وروى عنه القاسم بن محمد : يجزيه كفارة يمين . وقال مسروق : لا شيء عليه . وقال الشافعي : هو معصية يستغفر الله منها . وقال أبو حنيفة : هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شيء . قال محمد : عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث . وذكر ابن عبد الحكم عن مالك فيمن قال : أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي . قال : ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه . قال : ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه . قال القاضي ابن العربي : يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة ؛ لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا ، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد ، وأخرجه عنه بذبح شاة . وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة ؛ لأن الله تعالى قال : " ملة أبيكم إبراهيم " [ الحج : 78 ] والإيمان التزام أصلي ، والنذر التزام فرعي ، فيجب أن يكون محمولا عليه . فإن قيل : كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز . قلنا : هذا اعتراض على كتاب الله ، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام ، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام ، وقد قال الله تعالى : " افعل ما تؤمر " والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك : أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان ، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال ، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال ، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء ؛ ولهذا قال الله تعالى : " إن هذا لهو البلاء المبين " في الصبر على ذبح الولد والنفس ، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية . فإن قيل : كيف يصير نذرا وهو معصية . قلنا : إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء ؟ فإن قيل : فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء ؟ قلنا : لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره ؛ لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا .


[13287]:راجع ج 12 ص 42 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13288]:راجع ج 7 ص 55 طبعة أولى أو ثانية.
[13289]:راجع ج 6 ص 50 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13290]:النقي: مخ العظام وشحمها. يريد أنه لا يوجد فيها شحم لهزالها وضعفها.
[13291]:نستشرف، يعني نتطلع العين والأذن، ونبحث عنهما لئلا يكون فيهما عيب.
[13292]:عقب صاحب لسان العرب في مادة " سنن" على رواية القتبي وتفسيره بقوله:" وقد وهم القتبي في الرواية والتفسير؛ لأنه روى الحديث "لم تسنن" بفتح النون الأولى، وإنما حفظه من محدّث لم يضبطه، وأهل الثبت والضبط رووه " لم تسنن" بكسر النون وهو الصواب في العربية، والمعنى لم تسن فأظهر التضعيف لسكون النون الأخيرة، كما يقال: لم يجلل. وإنما أراد ابن عمر أنه يضحي بأضحية لم تثن، أي لم تصر ثنية وإذا أثنت فقد أسنت. ثم قال: وأما خطأ القتبي من الجهة الأخرى فقوله: سننت البدنة إذا نبتت أسنانها وسنها الله غير صحيح، وقوله: لم يلبن ولم يسمن أي لم يعط لبنا وسمنا غير صحيح، وإنما معناهما لم يطعم سمنا ولم يسق لبنا"