هذا المطلع بإيقاعاته تلك ، يدع القلوب في حساسية مرهفة للتلقي . ومن ثم يجيء الهتاف لها بالإيمان والبذل في أنسب أوان . وقد تفتحت مداخلها ، وتوفزت مشاعرها ، واستعدت للاستماع . وهنا يجيء ذلك الهتاف في المقطع التالي في السياق . ولكنه لا يجيء مجردا . إنما يجيء ومعه مؤثراته وإيقاعاته ولمساته :
( آمنوا بالله ورسوله ، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير . وما لكم لا تؤمنون بالله ، والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ، وقد أخذ ميثاقكم ? إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وإن الله بكم لرؤوف رحيم . وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ? لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ، والله بما تعملون خبير ) . .
إن الله - سبحانه - يخاطب القلوب التي خلقها ، فهو يعلم أحوالها ، ويعرف مداخلها ، ويطلع على خوافيها . . وهو يعلم أن نقاء العقيدة ، وخلوص القلب ، واستقرار حقيقة الإيمان استقرارا تنبثق منه آثاره ونتائجه في واقع الحياة ، من بذل وتضحية وتقدمة خالصة لله . أن هذا أمر يكلف الطاقة البشرية كثيرا ؛ ويحتاج منها إلى جهد ومجاهدة طويلة . ومن ثم يحشد لها هذه الإيقاعات وهذه المؤثرات ؛ ويكشف لها عن الحقائق الكونية لتراها وتتأثر بها ، وتزن كل شيء بميزانها الكبير الدقيق . ويعالجها المرة بعد المرة ، والخطوة بعد الخطوة ؛
ولا يكلها إلى هتاف واحد ، أو بيان واحد ، أو مؤثر واحد يوقع على أوتارها ثم يغيب . . ومنهج القرآن الإلهي في علاج القلوب جدير بأن يقف الدعاة إلى الله أمامه طويلا ؛ ليتدبروه ويحاولوا أن يقلدوه !
إن الإيقاعات الأولى في مطلع السورة من القوة والتوالي والعمق والتأثير ، بحيث تزلزل القلوب الجامدة ، وتلين القلوب القاسية ، وتدعها مرهفة الحساسية . ولكن القرآن لا يكل قلوب المخاطبين إلى هذه اللمسات الأولى ، وهو يدعوهم إلى الإيمان والبذل في الفقرة التالية :
( آمنوا بالله ورسوله ، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) . .
والمخاطبون هنا هم مسلمون ، ولكنهم يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله . فهي إذن حقيقة الإيمان يدعون لتحقيقها في قلوبهم بمعناها . وهي لفتة دقيقة . وهم يدعون إلى الإنفاق ، ومع الدعوة لمسة موحية . فهم لا ينفقون من عند أنفسهم . إنما ينفقون مما استخلفهم الله فيه من ملكه . وهو الذي ( له ملك السماوات والأرض ) . . فهو الذي استخلف بني آدم جملة في شيء من ملكه . وهو الذي ( يحيي ويميت ) . . فهو الذي استخلف جيلا منهم بعد جيل .
وهكذا ترتبط هذه الإشارة بما سبق من الحقائق الكلية في مطلع السورة . ثم تقوم هي بدورها في استثارة الخجل والحياء من الله ، وهو المالك الذي استخلفهم وأعطاهم ، فماذا هم قائلون حين يدعوهم إلى إنفاق شيء مما استخلفهم فيه ومما أعطاهم ? ! وفي نهنهة النفوس عن الشح ، والله هو المعطي ولا نفاد لما عنده ، فماذا يمسكهم عن البذل والعطاء ، وما في أيديهم رهن بعطاء الله ? !
ولكنه لا يكلهم إلى هذا التذكير وما يثيره من خجل وحياء ، ومن سماحة ورجاء . إنما يخاطبهم بمؤثر جديد . يخجلهم من كرم الله ويطمعهم في فضله :
( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ) . .
فكيف يتخلف متخلف عن الإيمان والبذل في مواجهة هذا الكرم والفضل ?
مستخلفين فيه : خلفاء عنه ووكلاء بالتصرف .
هذه السورةُ من السوَر المدنية كما قدّمنا ، وهي تعالج بناء دولة وأمة . وهنا تعالج حالةً واقعة في ذلك المجتمع الإسلامي الجديد ، فيظهر من سياق الحثِّ على البذْل والإيمان أنه كان في المدينة ، إلى جانبِ السابقين من المهاجِرين والأنصار ، فئةٌ من المؤمنين حديثةُ عهدٍ بالإسلام ، لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ، ولهم صِلاتُ قرابةٍ ونَسَبٍ مع طائفة المنافقين التي نبتت بعد الهجرة وكانت تكيدُ للإسلام والمسلمين . وكانت هذه المكائد تؤثّر في بعض المسلمين الذين
لم يُدركوا حقيقةَ الإيمان فأنزل الله تعالى هذه الآية والآياتِ التي بعدها يثبّت بها قلوبَ المؤمنين ويحثّهم على البذل والعطاء . فهي تقول :
آمِنوا باللهِ حقَّ الإيمان الصادق ، وأنفِقوا في سبيل الله من المال الذي جعلكم خلفاءَ في التصرّف فيه .
ثم تبين السورة ما أعدّ الله للذين آمنوا وأنفقوا من أجرٍ كبير : { فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } .
{ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الانفاق ، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم ، وفيه أيضاً ترغيب في الانفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان ، وفي الحديث «يقول ابن آدم : ما لي ما لي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت » والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى : { لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض } [ الحديد : 5 ] وعليه ما حكى أنه قيل لأعرابي : لمن هذه الإبل ؟ فقال : هي لله تعالى عندي ، ويميل إليه قول القائل
: وما المال والأهلون ( إلا ودائع ) *** ولا بد يوماً أن ترد الودائع
والآية على ما روى عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل { فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ } حسبما أمروا به { لَهُمْ } بسبب ذلك { أَجْرٌ كَبِيرٌ } وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلاً آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجراً كبيراً ، وأعيد ذكر الإيمان والانفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فالذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير ، ووصف بالكبير .
من باب الإشارة : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات .
{ 7-11 } { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }
يأمر تعالى عباده بالإيمان به وبرسوله وبما جاء به ، وبالنفقة في سبيله ، من الأموال التي جعلها الله في أيديهم واستخلفهم عليها ، لينظر كيف يعملون ، ثم لما أمرهم بذلك ، رغبهم وحثهم عليه بذكر ما رتب عليه من الثواب ، فقال : { فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا } أي : جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، والنفقة في سبيله ، لهم أجر كبير ، أعظمه [ وأجله ] رضا ربهم ، والفوز بدار كرامته ، وما فيها من النعيم المقيم ، الذي أعده الله للمؤمنين والمجاهدين ، ثم ذكر [ السبب ] الداعي لهم إلى الإيمان ، وعدم المانع منه ، فقال :
{ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير }
{ آمنوا } داوموا على الإيمان { بالله ورسوله وأنفقوا } في سبيل الله { مما جعلكم مستخلفين فيه } من مال من تقدمكم وسيخلفكم فيه من بعدكم ، نزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا } إشارة إلى عثمان رضي الله عنه { لهم أجر كبير } .