التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ} (7)

{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 ) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( 9 ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 ) } ( 7 – 10 ) .

تعليق على الآية :

{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة . والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة . وقد تضمنت :

( 1 ) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله خلفاء ووكلاء عليه ، فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم .

( 2 ) وسؤالا استنكاريا على سبيل الحث والعتاب عما يمنعهم عن الإيمان بالله ، ورسوله يدعوهم إلى ذلك ، وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقا .

( 3 ) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، وأنه إنما يفعل ذلك ؛ لأنه بهم رؤوف رحيم .

( 4 ) وسؤالا استنكاريا آخر على سبيل الحث والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله ، في حين أن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله تعالى .

( 5 ) وتقريرا على سبيل الحث والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده ، وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال ، وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم .

ويتبادر لنا أن جملة : { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } هي في مقامها في معنى ( وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله ، وتطيعونه فيه ) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك ؛ لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا . فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة . وجملة : { إن كنتم مؤمنين } تدعم ذلك . كما تدعمه جملة : { وقد أخذ ميثاقكم } من حيث إنها تعني ( أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان ) . وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال عليه صيغة الكلام . والله تعالى أعلم .

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية ( -10 ) نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق ماله في سبيل الله ، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد روى المفسر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال : ( كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ، فنزل عليه جبريل فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح . قال : فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك : أراض أنت في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي . إني عن ربي راض ، إني عن ربي راض ) وفحوى الروايات لا يتضمن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح . والحديث بعد لم يرد في الصحاح .

ومع عظم احترامنا للصديق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين ، فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد ، وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } ( 100 ) . ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب ، ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد ، وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة ( 264 – 267 ) والنساء : ( 71 – 87 و 90 – 100 و 114 – 115 و 140 – 147 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحث وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم .

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ، فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ) ( 1 ){[2111]} . حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييده لما قلناه . مع التنبيه على أننا ننزه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب . وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة ، وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب ( 2 ){[2112]} . ولقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مسلما باختياره وعن قناعة ( 1 ){[2113]} . ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا .

ومهما يكن من أمر ، فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط ، وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق ، وقصد التنديد بهم ، والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك ، ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه . وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفناء فيه . كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية ( 100 ) من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها . ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة ( 204 – 206 ) وآل عمران ( 138 – 168 ) والنور ( 47 – 45 ) والمجادلة ( 8 – 9 ) والصف ( 2 – 3 ) صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور . وجميعها قد مر تفسيرها وشرحها . وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما سوف نشرحه في مناسبتها .

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين ( 1 ){[2114]} عن التابعين من أهل التأويل في جملة : { وقد أخذ ميثاقكم } حيث قال بعضهم : إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم ، والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } ( 172 ) . وحيث قال بعضهم : إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهدة الله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد ، ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم ( 1 ){[2115]} .

ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ؛ حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عز وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف . والله أعلم .

ومع أن هناك من قال : إن الفتح المذكور في الآية ( 10 ) هو فتح الحديبية – وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح – فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة ( 2 ){[2116]} . وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك ؛ لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين . وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها ، كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة ( 3 ){[2117]} .

هذا ، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين . ويحفزهم إلى التضحية بالمال والنفس والتسابق في ذلك . وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشد لزاما . ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا ؛ حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عز وجل .

وجملة : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها ، وبأن عليهم أن يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه . وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين .


[2111]:روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أبي سعيد فيه شيء من ذلك قال: (كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) التاج ج 3 ص 272. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، فقلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا هم أرق أفئة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال: هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية، فقلنا: يا رسول الله هم خير منا. قال: والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصفيه، ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج 3 ص 270 وما بعدها.
[2112]:مما رواه ابن هشام (ج 3 ص 319) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين؟ فقال له: إلى المدينة فأسلم، فإن الرجل نبي وحتى متى؟ فقال له: وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج 1 ص (149) تأليف رفيق العظيم).
[2113]:انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.
[2114]:انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.
[2115]:انظر الكتب السابقة الذكر.
[2116]:انظر المصدر نفسه.
[2117]:انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 152 وما بعدها.