وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين ، كأنه حاضر تراه العيون . .
( فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هاؤم اقرأوا كتابيه ، إني ظننت أني ملاق حسابيه . . فهو في عيشة راضية . في جنة عالية . قطوفها دانية . كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) .
وأخذ الكتاب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر قد يكون حقيقة مادية ، وقد يكون تمثيلا لغويا جاريا على اصطلاحات اللغة العربية من تعبيرهم عن وجهة الخير باليمين ووجهة الشر بالشمال أو من وراء الظهر . . وسواء كان هذا أو ذاك فالمدلول واحد ، وهو لا يستدعي جدلا يضيع فيه جلال الموقف !
والمشهد المعروض هو مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب ، وهو ينطلق في فرحة غامرة ، بين الجموع الحاشدة ، تملأ الفرحة جوانحه ، وتغلبه على لسانه ، فيهتف : هاؤم اقرؤوا كتابيه . . ثم يذكر في بهجة أنه لم يكن يصدق أنه ناج ، بل كان يتوقع أن يناقش الحساب . . " ومن نوقش الحساب عذب " كما جاء في الأثر : عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " من نوقش الحساب عذب " فقلت : أليس يقول الله تعالى : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا )فقال : " إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مطر الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم ، عن الأحول ، عن أبي عثمان ، قال : المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله ، فيقرأ سيئاته ، فكلما قرأ سيئة تغير لونه ، حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات . قال : فعند ذلك يقول : هاؤم اقرؤوا كتابيه .
وروى عن عبد الله بن حنظلة - غسيل الملائكة - قال : إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي - أي يظهر - سيئاته في ظهر صحيفته ، فيقول له : أنت عملت هذا ? فيقول : نعم أي رب ! فيقول له : إني لم أفضحك به ، وإني قد غفرت لك . فيقول عند ذلك : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه .
وفي الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى ، فقال : " سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه . وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين " . .
بعد أن قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة ، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء ، وتقفُ الملائكة على جوانبها ، ويوضع العرشُ ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء ، بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر ، وهم : السعداءُ أصحاب اليمين ، والأشقياءُ أصحاب الشمال . فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم ، ويغدُون مسرورين فرحين ، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها .
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة فقال تعالى { فأما من أُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } أي إنه بعد مجيء الربّ تبارك وتعالى لفصل القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا كتابي فاقرؤوه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات .
{ 19 - 24 } { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }
وهؤلاء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزا لهم وتنويها بشأنهم ورفعا لمقدارهم ، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } أي : دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر بالجنات ، وأنواع الكرامات ، ومغفرة الذنوب ، وستر العيوب .
والذي أوصلني إلى هذه الحال ، ما من الله به علي من الإيمان بالبعث والحساب ، والاستعداد له بالممكن من العمل ، ولهذا قال :
{ فأما من أوتي كتابه بيمينه } الكتاب هنا صحائف الأعمال .
{ هاؤم اقرؤا كتابيه } هاؤم اسم فعل ، قال ابن عطية : معناه تعالوا وقال الزمخشري : هو صوت يفهم منه معنى خذ ، وكتابيه مفعول يطلبه هاؤم واقرؤوا من ضمير المعنى تقديره هاؤم كتاب اقرؤوا كتابي ثم حذف لدلالة الآخر عليه وعمل فيه العامل ، الثاني : وهو اقرأوا عند البصريين ، والعامل الأول : هو هاؤم عند الكوفيين ، والدليل على صحة قول البصريين أنه لو عمل الأول لقال اقرؤوه ، والهاء في كتابيه للوقف وكذلك في حسابيه وماليه وسلطانيه وكان الأصل أن تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط المصحف وقد أسقطها في الوصل بعضهم ، ومعنى الآية : أن العبد الذي يعطى كتابه بيمينه يقول للناس : اقرأوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه .
ولما كان من المعلوم أنهم قسمان : محسن ومسيء ، وكان التقدير : فنعطي كلاًّ منكم صحيفة أعماله من أفعاله وأقواله وجميع خلائقه وأحواله ، فمنكم من تدفع إليه في يمينه فتظهر له حسناته وتستر عنه سيئاته ، ومنكم من يعطاها في شماله فتبدو له سيئاته ويمحي ما كان من حسناته ، لأنه أوتي ثوابه في الدنيا بما عجل له من طيباته ، عطف عليه مفصلاً له قوله : { فأما من أوتي } بناه للمفعول لأن دلالة السعادة الوقوع في اليمين لا من معط معين { كتابه } أي الذي أثبت فيه أعماله { بيمينه{[68035]} فيقول } لما رأى من سعادته تبجحاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه من خير تكميلاً للذته بكبت{[68036]} أعدائه وتفريح أوليائه ، قيل : إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها ، فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر ، فإذا أنهاه قيل له : قد غفرها الله ، اقلب الصحيفة ، فحينئذ يكون قوله : { هاؤم } أي خذوا أيها الحاضرون من الخلائق الملائكة وغيرهم ، فيها صوت يفهم منه معنى : خذوا ، ويوصل تارة بالكاف وتارة بالهمزة ، اسم فعل ، وإنما اختارها هنا ليعلم أن خطابها لجميع أهل الموقف{[68037]} من كان منهم باطناً من الملائكة والجن وغيرهم ، ومن كان منهم ظاهراً لأن الألف عند الربانيين غيب وإحاطة كما دل عليها مخرجها ، فهي عبارة عندهم عن القائم الأعلى المحيط ، وروي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والهمزة {[68038]}بدء غيبه{[68039]} ولذا كان مخرجها أقصى الحروف الحلقية دلالة على ذلك ، وبدء غيب الله سبحانه وتعالى أفعاله وهي تشمل الظاهر والخفي {[68040]}أصلها الكاف{[68041]} فهي عندهم ظهور متكامل ذو استقلال ، وهو من يكون من شأنه الظهور ، وأبناء الجنس أحق بهذا{[68042]} ، وقد دل على ذلك مخرج الكاف الذي بعد القاف من أصل اللسان الأقرب إلى وسطه ، ومفعول " ما " محذوف عند البصريين دل عليه " كتابيه {[68043]} " من قوله : { اقرءوا كتابيه * } وهاؤه للسكت ، كأنها إشارة إلى شدة الكرب في ذلك اليوم للدلالة على أنه إذا كان هذا السعيد يسكت في كل جملة للاستراحة لا يقدر في الكلام على المضي فما الظن بغيره ، وتشير{[68044]} أيضاً مع ذلك إلى فراغ الأمر ونجازة الجزم{[68045]} به والوثوق بأنه لا يغير .