ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة ، تختار لها تعبيرات أنيقة . . القسم على طبيعة الوحي ، وصفة الرسول الذي يحمله ، والرسول الذي يتلقاه ، وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله :
فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . .
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء .
وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب ، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
قوله تعالى : " فلا أقسم " أي أقسم ، و " لا " زائدة ، كما تقدم . " بالخنس ، الجوار الكنس " هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة ، فيما ذكر أهل التفسير . والله أعلم . وهو مروي عن علي كرم الله وجهه . وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان : أحدهما : لأنها تستقبل الشمس . قاله بكر بن عبد الله المزني . الثاني : لأنها تقطع المجرة . قاله ابن عباس . وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، وقاله علي رضي الله عنه ، قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ، وتكنس في وقت غروبها ، أي تتأخر عن البصر لخفائها ، فلا ترى .
وفي الصحاح : " الخنس " : الكواكب كلها ؛ لأنها تخنس في المغيب ، أو لأنها تخنس نهارا . ويقال : هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة . وقال الفراء في قوله تعالى : " فلا أقسم بالخنس . الجواري الكنس " : إنها النجوم الخمسة ، زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ؛ لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس ، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار ، وهو الكناس . ويقال : سميت خنسا لتأخرها ، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم ، يقال : خنس عنه يحنس بالضم خنوسا : تأخر ، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه . والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، والرجل أخنس ، والمرأة خنساء ، والبقر كلها خنس . وقد روي عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : " فلا أقسم بالخنس " هي بقر الوحش . روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبد الله بن مسعود : إنكم قوم عرب فما الخنس ؟ قلت : هي بقر الوحش . قال : وأنا أرى ذلك . وقال إبراهيم وجابر بن عبد الله . وروي عن ابن عباس : إنما أقسم الله ببقر الوحش . وروى عنه عكرمة قال : " الخنس " : البقر و " الكنس " : هي الظباء ، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن . القشيري : وقيل على هذا " الخنس " من الخنس في الأنف ، وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظباء خنس . والأصح الحمل على النجوم ، لذكر الليل والصبح بعد هذا ، فذكر النجوم أليق بذلك .
قلت : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك . وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي : أنها بقر الوحش . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء . وعن الحجاج بن منذر قال : سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس ؟ فقال : الظباء والبقر ، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم . وقد قيل : إنها الملائكة . حكاه الماوردي . والكنس الغُيَّبُ . مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه . قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مُزْنَه *** وعُفْرُ الظباء في الكِنَاسِ تَقَمَّعُ{[15824]}
كأن كِنَاسَيْ ضالةٍ يَكْنُفَانِهَا *** وأَطْرَ قِسِيٍّ تحتَ صُلْبٍ مُؤَيَّدِ{[15825]}
وقيل : الكنوس أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء . قال الأعشى في ذلك :
فلما أتينا الحي أتْلَعَ آنسٌ *** كما أَتْلَعَتْ تحت المكانسِ رَبْرَبُ
يقال : تلع . النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها : أي سَمَت بجيدها . وقال امرؤ القيس :
تَعَشَّى{[15826]} قليلا ثم أنْحَى ظُلُوفَهُ *** يثِيرُ التُّرَابَ عن مَبِيتٍ ومَكْنِسِ
والكنس : جمع كانس وكانسة ، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة . والجواري : جمع جارية من جرى يجري .
ثم أبدل منها أعظمها فقال : { الجوار الكنس * } أي السيارة التي تختفي{[71897]} وتغيب بالنهار تحت ضوء الشمس ، من كنس الوحش - إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر ، وقال الرازي : يكنس ويستتر{[71898]} العلوي منها بالسفلي عند القرانات كما تستتر الظباء في الكناس ، وقال قتادة{[71899]} : تسير{[71900]} بالليل وتخنس{[71901]} بالنهار فتخفى ولا ترى ، وروي ذلك أيضاً عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال البغوي{[71902]} : وأصل الخنوس الرجوع إلى-{[71903]} وراء والكنوس أن تأوي إلى مكانسها{[71904]} . وقال القشيري : إن ذلك غروبها ، وإنما نفى الإقسام بها-{[71905]} لأنها وإن كانت عظيمة في أنفسها{[71906]} بما ناط بها سبحانه من المصالح وأنتم تعظمونها وتغلون فيها لأن فيها نقائص الغيبوبة و-{[71907]} انبهار النور ، والقرآن المقسم{[71908]} لأجله منزه عن ذلك ، بل هو الغالب على كل ما سواه من الكلام غلبة-{[71909]} هي أعظم من غلبة ضياء الشمس لنور ما سواها من الكواكب ، فلذلك لا يليق أن يقسم بها لأجله .
قوله : { الجوار الكنّس } أي تجري في فلكها . والكنّس ، جمع كانس وكانسة . يقال : كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش ، وتقول العرب : أوى الظبي إلى كناسه إذا تغيب فيه . والكانس ، الظبي يدخل في كناسه وهو موضعه في الشجر يكتنّ فيه {[4770]} .
والمراد النجوم الخمسة التي تخنس في مجراها وتكنس ، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار وهو الكناس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.