التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ} (16)

و ( الجواري ) : جمع جارية ، وهي التي تجري ، أي تسير سيراً حثيثاً .

و { الكنس } : جمع كانسة ، يقال : كَنسَ الظبي ، إذا دخل كِناسه ( بكسر الكاف ) وهو البيت الذي يتخذه للمبيت .

وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب ، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه ، فقيل : الخُنَّس وهو من بديع التشبيه ، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون سكون في كناس ، وكذلك الكواكب لأنها لا تُرى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها .

وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلها في سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش ، فشبهت حالة بُدُوّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل . وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكُنّس ، أي عند غروبها تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقرة الوحشية كِناسها بعد الانتشار والجري .

فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها ، وشبه تنقل مَرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحاً ، قال لبيد :

حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت *** بَكَرَتْ تَزل عن الثرى أزلامُها

وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله : { بالخنس } استعارة وكان { الجوار الكنس } ترشيحين للاستعارة .

وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش ، والإِلغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم ، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية :

فقلت أعيراني القَدوم لعلّني *** أخُطُّ بها قبْراً لأبيض ماجد

أراد أنه يصنع بها غِمداً لسيف صقيل مهند .

وعن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس : حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة ، وأن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش .

والمعروف في إقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة .