ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة ، يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم ، وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير ، الذي يشملهم كذلك ، ويقدر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال :
( فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتركبن طبقا عن طبق ) . .
وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها ، لتوجيه القلب البشري إليها ، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها . . لمحات ذات طابع خاص . طابع يجمع بين الخشوع الساكن ، والجلال المرهوب . وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة .
فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب . . وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة . ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق . كما يحس برهبة الليل القادم ، ووحشة الظلام الزاحف . ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون !
الشفق : الحمرة التي تشاهَد في الأفق الغربي بعد الغروب ، ويستمر إلى قبيل العشاء ، والشفقُ : الشفقة .
بعد هذه الجولة العميقة الأثر بمشاهدِها ، لتأكيد أن الإنسانَ راجع إلى ربه يوم القيامة ، حيث يحاسَب حساباً يَسيرا أو عسيرا حسب أعماله ، يُقسِم الله تعالى بآياتٍ له في الكائنات أنّ بعثَ الناس يوم القيامة كائن لا محالة .
{ فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق . . . . . }
تتكرر هذه العبارة في القرآنِ ، وهو أسلوبٌ يأتي عندما يكون الشيءُ الذي أقسَمَ الله عليه جليلَ القدر ، فيقول سبحانه : لا أُقسِم بهذه الأشياءِ على إثباتِ ما أريد لأن أمره ظاهر ، وإثباته أعظمُ وأجلُّ من أن يقسَم عليه . وأول هذه الأمور الشفَق . .
{ 16 - 25 } { فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }
أقسم في هذا الموضع بآيات الليل ، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس ، الذي هو مفتتح الليل
ابن العربي: قال أشهب، وعبد الله بن عبد الحكم وابن القاسم وغيرهم، وكثير عددهم، عن مالك: الشفق: الحمرة التي تكون في المغرب فإذا ذهبت الحمرة فقد خرج وقت المغرب، ووجبت صلاة العشاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا قَسَم أقسم ربنا بالشفق، والشفق: الحمرة في الأفق من ناحية المغرب من الشمس في قول بعضهم.
فقال بعضهم: هو الحمرة كما قلنا، وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون: الشفَق: هو اسم للحمرة والبياض، وقالوا: هو من الأضداد.
والصواب من القول في ذلك عندي: أن يقال: إن الله أقسم بالنهار مدبرا، والليل مقبلاً. وأما الشفَق الذي تحُلّ به صلاة العشاء، فإنه للحمرة عندنا، للعلة التي قد بيّنّاها في كتابنا كتاب الصلاة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«لا» زائدة، والتقدير فأقسم، وقيل: «لا» راد على أقوال الكفار وابتداء القول {أقسم}، وقسم الله تعالى بمخلوقاته هو على جهة التشريف لها، وتعريضها للعبرة، إذ القسم بها منبه منها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فلا أقسم} أي أحلف حلفاً عظيماً هو كقاموس البحر بهذه الأمور التي سأذكرها لما لها من الدلالة على القدرة على الإبداء والإعادة، لا أقسم بها وإن كانت في غاية العظم بما لها من الدلالات الواضحة لأن المقسم عليه أجل منها وأظهر فهو غني عن الإقسام {بالشفق} أي الضياء الذي يكون في المغرب عقب غروب الشمس أطباقاً حمرة ثم صفرة ثم كدرة إلى بياض ثم سواد، وكذلك الليل أوله بياض بغبرة ثم تتزايد غبرته قليلاً قليلا إلى أن يسود...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق.. لتركبن طبقا عن طبق).. وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها، لتوجيه القلب البشري إليها، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها.. لمحات ذات طابع خاص. طابع يجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب. وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة. فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب.. وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة. ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق. كما يحس برهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف. ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسَم عليه لأنّ الشفق والليل والقمر تخالط أحوالاً بين الظلمة وظهور النور معها، أو في خلالها، وذلك مناسب لما في قوله: {لتركبن طبقاً عن طبق} من تفاوت الأحوال التي يختبط فيها الناس يومَ القيامة أو في حياتهم الدنيا، أو من ظهور أحوال خير من خلال أحوال شَرّ أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي. ولعل ذِكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مِثْل حالة الموت، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين. والشفق: اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس أثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعضُ جرم الأرض، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقاً...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
فأشار كتاب الله في هذا السياق إلى "الشفق الأحمر " الذي يلاحق غروب الشمس في أول الليل، ويمتد إلى وقت العشاء، ولمنظره روعة وأية روعة، وإيحاء وأي إيحاء. وأشار كتاب الله في نفس السياق إلى " الليل المظلم " وما يرافق قدومه من مظاهر وظواهر تختلف كل الاختلاف عن مظاهر النهار وظواهره، ولظلام الليل رهبة وأية رهبة، وجلال وأي جلال. وأشار كتاب الله في نفس السياق إلى " القمر المنير"، ولتكامل نوره إذا استدار تأثير وأي تأثير، وجمال وأي جمال. وإذا كانت قوات الكون كلها مسخرة لله تتحرك بأمره كما يشاء، وتؤدي وظيفتها كما يريد على أحسن الوجوه، إلى ميقات يوم معلوم، فهل يستطيع الإنسان، وهو جزء صغير من هذا الكون الذي لا يتجزأ، أن يفلت من قبضة الله، أو أن يتحرك على خلاف مشيئته وبعكس إرادته؟ إنه لن يستطيع ذلك، ولا بد من أن يندمج في ناموس الكون العام، مصداقا لقوله تعالى: {فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق}...
قوله تعالى : " فلا أقسم " أي فأقسم و " لا " صلة . " بالشفق " أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة . قال أشهب وعبد الله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم ، كثير عددهم عن مالك : الشفق الحمرة التي في المغرب ، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء . وروى ابن وهب قال : أخبرني غير واحد عن علي ابن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة : أن الشفق الحمرة ، وبه قال مالك بن أنس . وذكر غير ابن وهب من الصحابة : عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنسا وأبا قتادة وجابر بن عبد الله وابن الزبير ، ومن التابعين : سعيد بن جبير ، وابن المسيب وطاوس ، وعبد الله بن دينار ، والزهري ، وقال به من الفقهاء الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيدة وأحمد وإسحاق وقيل : هو البياض . روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه . وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه . وروي عن ابن عمر أيضا أنه البياض والاختيار الأول ؛ لأن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه ، ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ : كأنه الشفق وكان أحمر ، فهذا شاهد للحمرة . وقال الشاعر :
قم يا غلام أعِنِّي غير مرتبكٍ *** على الزمان بكأس حَشْوُهَا شَفَقُ
ويقال للمَغْرة الشفق . وفي الصحاح : الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة . قال الخليل : الشفق : الحمرة ، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة ، إذا ذهب قيل : غاب الشفق . ثم قيل : أصل الكلمة من رقة الشيء . يقال : شيء شفق أي لا تماسك له لرقته ، وأشفق عليه . أي رق قلبه عليه ، والشفقة : الاسم من الإشفاق ، وهو رقة القلب ، وكذلك الشفق . قال الشاعر{[15873]} :
تهوَى حياتِي وأهْوَى موتَهَا شَفَقًا *** والموتُ أكرم نَزَّالٍ على الحُرَمِ
فالشفق : بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرقة عن ضوء الشمس . وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا . وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض ، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب . وقال ابن أبي أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر . قال علماؤنا : فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره . وفي سنن أبي داود عن النعمان بن بشير قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة . كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الثالثة . وهذا تحديد ، ثم الحكم معلق بأول الاسم . لا يقال : فينقض عليكم بالفجر الأول ، فإنا نقول الفجر الأول لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال : " وليس الفجر أن تقول هكذا - فرفع يده إلى فوق - ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها " وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة " البقرة " {[15874]} ، فلا معنى للإعادة . وقال مجاهد : الشفق : النهار كله ألا تراه قال " والليل وما وسق " وقال عكرمة : ما بقي من النهار . والشفق أيضا : الرديء من الأشياء . يقال : عطاء مشفق أي مقلل قال الكميت :
قوله تعالى : { فلا أقسم بالشّفق 16 والليل وما وسق 17 والقمر إذا اتّسق 18 لتركبن طبقا عن طبق 19 فما لهم لا يؤمنون 20 وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون 21 بل الذين كفروا يكذبون 22 والله أعلم بما يوعون 23 فبشرهم بعذاب أليم 24 إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } .
يقسم الله بأجزاء مما خلق وهي : الشفق ، والليل ، والقمر . وله جل شأنه أن يقسم بما شاء من خلقه . والمقسوم عليه أن الناس راكبون حالا بعد حال إلى أن يلقوا ربهم يوم الحساب . وهذه حقيقة جليلة تتجلى في كلمات الله العذاب . الكلمات القرآنية النفاذة العطرة التي يفيض منها جمال النظم وحلاوة النغم مما يهيج في القلب والذهن والخيال كوامن الإعجاب والبهر والذكرى . وهو قوله سبحانه : { فلا أقسم بالشفق } لا ، زائدة . أي أقسم بالشفق . وهو الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة فإذا ذهب قيل : غاب الشفق وقيل : الشفق ، النهار كله . والأول أظهر وهو قول أكثر العلماء .