اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ} (16)

قوله : { فلا أقسم بالشفق } «لا » : صلة : «بالشَّفَقِ » أي : بالحمرة التي تكون عند غروب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة .

قال الراغب : الشَّفَقُ : هو اختلاط ضوء النَّهار بسواد الليل عند غروب الشمس ، والإشفاقُ : عناية مختلطة بخوف ؛ لأن المُشفق يحب المشفق عليه ، ويخاف ما يلحقه ، فإذا عُدّي ب «من » فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإذا عدي ب «على » فمعنى العناية فيه أظهر .

وقال الزمخشري{[59687]} : «الشفق » الحُمْرة التي ترى في الغروب بعد سقوط الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ، ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء ، إلا ما روي عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين : أنه البياض . وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه ، سمي شفقاً لرقته ، ومنه الشفقة على الإنسان ، رقة القلب عليه انتهى .

والشَّفَقُ : شفقان ، الشَّفَقُ الأحمر ، والآخر : الأبيض ، والشفقُ والشفقةُ : اسمان للإشفاق ؛ وقال الشاعر : [ البسيط ]

5141- تَهْوَى حَياتِي وأهْوَى مَوْتَهَا شَفقاً *** والمَوْتُ أكْرَمُ نَزَّالٍ على الحُرمِ{[59688]}

تقدم اختلاف العلماء في القسم بهذه الأشياء ، هل هو قسم بها أو بخالقها ؟ وأن المتقدمين ذهبوا إلى أن القسم واقع برب الشفق ، وإن كان محذوفاً ؛ لأن ذلك معلوم من ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى .

واعلم أن الصحيح في الشفق : أنَّه الحمرة ؛ لأن أكثر الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء عليه ، وشواهد [ كلام العرب ]{[59689]} ، والاشتقاق ، والسنة تشهد له .

وقال الفراء : «وسمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ أحمر كأنه الشفق » .

وقال الشاعر : [ الرجز ]

5142- *** وأحْمَرُ اللَّوْنِ كحُمَرِّ الشَّفقْ{[59690]}***

وقال آخر : [ البسيط ]

5143- قُمْ يا غُلامُ أعنِّي غَيْرَ مُرتَبِكٍ*** على الزَّمانِ بكأسٍ حَشوُهَا شَفَقُ{[59691]}

ويقال للمغرة : الشَّفقة .

وفي «الصِّحاح »{[59692]} : الشَّفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قرب من العتمة .

وقال الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب قيل : غاب الشفق .

وأصل الكلمة من رقّة الشيء ، يقال : شيء شفق ، أي : لا تماسك له لرقته ، وأشفق عليه أي : رق قلبه عليه ، والشفقة : الاسم من الإشفاق ، وهو رقة القلب ، وكذلك الشفق ، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس .

وزعم بعض الحكماء : أن البياض لا يغيب أصلاً .

وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية ، فرمقت البياض ، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ، ولم أره يغيب .

وقال ابن أبي أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر ، وكل ما يتجدّد وقته سقط اعتباره .

وروى النعمانُ بن بشيرٍ ، قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة{[59693]} . وهذا تحديد .

وقال مجاهد : الشفق النهار كله{[59694]} ؛ لأنه عطف عليه { والليل وَمَا وَسَقَ } ، فوجب أن يكون الأول هو النهار ، فعلى هذا يكون القسم واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش ، والثاني : سكن ، والشفقُ أيضاً : الرديء من الأشياء ، يقال : عطاء مشفق ، أي : مقلل ؛ قال الكميتُ : [ الكامل ]

5144- مَلِكٌ أغَرُّ مِن المُلُوكِ تَحلَّبَتْ *** للسَّائلينَ يَداهُ غَيْرُ مُشفِّق{[59695]}


[59687]:ينظر: الكشاف 4/727.
[59688]:ينظر القرطبي 19/181، والبحر 8//437 والدر المصون 6/499.
[59689]:سقط من أ.
[59690]:ينظر القرطبي 19/181.
[59691]:ينظر القرطبي 19/181.
[59692]:ينظر الصحاح 4/1501.
[59693]:أخرجه أبو داود (1/167) كتاب الصلاة، باب: في وقت العشاء الآخرة رقم (419) والترمذي (1/306) أبواب الصلاة، باب: ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة رقم (165) والنسائي (1/264- 265) وأحمد (4/274) والدارمي (1/275) والدارقطني (1/270) والبيهقي (1/194 – 195) من حديث النعمان بن بشير. وقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (1/277): حديث النعمان حديث صحيح وإن لم يخرجه الإمامان.
[59694]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/510) عن مجاهد.
[59695]:ينظر شعر الكميت بن زيد ص 259، واللسان (شفق)، والقرطبي 19/181.