ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل : ( وهديناه النجدين )
. . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء ، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق ، وإعطاء كل شيء خلقه ، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود .
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ؛ كما أنها تمثل قاعدة " النظرية النفسية الإسلامية " هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )[ وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا ] .
ولما كان لله تعالى على كل أحد في كل لمحة منة جديدة في إبقاء هذه الآلات الثلاث ، عبر فيها بالمضارع ، ولما كانت النعمة في العقل إنما هي بهبته أولاً ثم بحمله به على الخير ثانياً ، وكان أمره خفياً ، وكان من المعلوم أن كل أحد غير مهدي في كل حركاته وسكناته إلى ما يسعده ، بل كان هذا المنكر عليه لم يؤهل لطريق الخير ، اختير له لفظ الماضي لذلك تحقيقاً لكونه وجعله غريزة لا تتحول وطبيعة لا تتبدل ، بل هي غالبة على صاحبها ، قائدة إلى مضارة أو محابة ومسارة وإن كره ، وهو السبب الذي يكون به الخلاص من شر تلك الأنكاد في دار الإسعاد فقال تعالى : { وهديناه } أي بما آتيناه من العقل { النجدين * } أي طريقي الخير والشر ، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف ، روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يا أيها الناس ! هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، يا أيها الناس إنما هما نجدان : نجد خير ونجد شر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير " قال المنذري : النجد هنا الطريق - انتهى . وهو طريق في ارتفاع ، عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان ، ولأن الإنسان لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة ، والنجد لغة الموضع العالي ، والله تعالى يعلي من أراد على ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً ، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً ، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى ، أما صعوبة طريق الخير فبما حفه به من المكاره حتى صار العمل به ، مع أن كل أحد يعشق اسمه ومعناه ، أشد شيء وأصعبه ، وأشقه وأتعبه ، وأما صعوبة طريق الشر فواضحة جداً مع أن الله يلزمه لمن أراد بتسهيله وتحبيبه وتخفيفه وتقريبه مع أن كل أحد يكره اسمه وينفر من معناه ، وجعل الله تعالى الفطرة الأولى السليمة التي فطر الناس عليها من الاستقامة بحيث تدرك الشر وتنهى عنه ، وتدرك الخير وتأمر به ، غير أن الشهوات والحظوظ تعالجها ، والغالب من أعانه الله ، وإلى ذلك يشير حديث " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " وحديث " البر ما اطمأنت إليه النفس وانشرح له الصدر ، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك " .
قوله : { وهديناه النّجدين } هدى الله الإنسان النجدين . وهما طريق الخير وطريق الشر . فقد بيّن الله للإنسان هذين السبيلين تبيينا كاملا مستفيضا لا لبس فيه ولا نقص ، وبيّن له أن أول هذين السبيلين يفضي إلى الجنة حيث النجاة والسعادة ، وأن ثانيهما يفضي إلى النار حيث العذاب والنكال . وذلك كله بعد أن بثّ الله في الإنسان استعداده لفعل الخير والشر وقد حرّضه على فعل الخير تحريضا ، وحذره من فعل الشر تحذيرا . وفوق ذلك كله فإن الله جل وعلا قد أودع الإنسان خصائص كبريات . أولها العقل المميز الممحّص الرادع ، وغير ذلك من خصائص الحياء والمروءة والرأفة والشفقة والضمير الحافز المبكّت ، اللوام . كل أولئك أسباب عظيمة للتحريض على فعل الخير ، واختيار طريقه ، ومجانبة الشر وفعله . وليس على الله لأحد بعد ذلك من حجة . فإن جنح الإنسان بعد ذلك كله للشر فلا يلومنّ إلا نفسه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.