ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة ، يتجلى فيه البغي والتطاول ، والإعراض عن النصح ، والتعالي على العظة ، والإصرار على الفساد ، والاغترار بالمال ، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران .
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون . ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين :
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثلما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم ! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون .
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان :
قال الذين يريدون الحياة الدنيا : ياليت لنا مثل ما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . .
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
قوله تعالى : " فخرج على قومه " أي على بني إسرائيل فيما رآه زينة من متاع الحياة الدنيا . من الثياب والدواب والتجمل في يوم عيد . قال الغزنوي : في يوم السبت
قوله تعالى : " في زينته " أي مع زينته قال الشاعر :
إذا ما قلوب القوم طارت مخافة *** من الموت أرسوا بالنفوس المواجد{[12388]}
أي مع النفوس . كان خرج في سبعين ألفا من تبعه ، عليهم المعصفرات ، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة . قال السدي : مع ألف جوار بيض على بغال بيض بسروج من ذهب على قطف الأرجوان . قال ابن عباس : خرج على البغال الشهب . مجاهد : على براذين بيض عليها سروج الأرجوان ، وعليهم المعصفرات ، وكان ذلك أول يوم رئي فيه المعصفر . قال قتادة : خرج على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر ، منها ألف بغل أبيض عليها قطف حمر . قال ابن جريج : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن الثياب الحمر . وقال ابن زيد : خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات . الكلبي : خرج في ثوب أخضر كان الله أنزله على موسى من الجنة فسرقه منه قارون . وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : كانت زينته القرمز . قلت : القرمز صبغ أحمر مثل الأرجوان ، والأرجوان في اللغة صبغ أحمر . ذكره القشيري .
قوله تعالى : " قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم " أي نصيب وافر من الدنيا . ثم قيل : هذا من قول مؤمني ذلك الوقت ، تمنوا مثل ماله رغبة في الدنيا . وقيل : هو من قول أقوام لم يؤمنوا بالآخرة ولا رغبوا فيها ، وهم الكفار .
ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلاً على إجرامه ، وطغيانه في آثامه : { فخرج على قومه } أي الذين نصحوه في الإقتصاد في شأنه ، والإكثار في الجود على إخوانه ، ثم ذكر حاله معظماً لها بقوله : { في زينته } أي التي تناسب ما ذكرنا من أمواله ، وتعاظمه في كماله من أفعاله وأقوله .
ولما كان كأنه قيل : ما قال قومه ؟ قيل : { قال الذين يريدون } أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا { الحياة الدنيا } منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني ، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود : { يا ليت لنا } أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان { مثل ما أوتي قارون } من هذه الزينة وما تسببت عنه من العلم ، حتى لا نزال أصحاب أموال ، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم : { إنه لذو حظ } أي نصيب وبخت في الدنيا { عظيم* } بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.