في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا} (44)

39

والأمور لا تمضي في الناس جزافاً ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثاً ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول . والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة ، محصورين في فترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة ، وسنن الوجود ، فيوجههم دائماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس . ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم ؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس .

وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول :

أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض . إنه كان عليماً قديراً .

والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ؛ والوقوف على مصارع الغابرين ، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه . . كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى . .

ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين ، وآثار الذاهبين . وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ، فلا تقف . وإذا وقفت لا تحس . وإذا أحست لا تعتبر . وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة . وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية . وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم ، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ؛ لا رابط لها ، ولا قاعدة تحكمها . والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس .

وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم . أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى . القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين :

( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .

ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض اسانيدها :

( إنه كان عليماً قديراً ) . .

يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ؛ وتقوم قدرته إلى جانب علمه . فلا يند عن علمه شيء ، ولا يقف لقدرته شيء . ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض . ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه : ( إنه كان عليماً قديراً ) . .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا} (44)

بين السنة التي ذكرها ، أي أو لم يروا ما أنزلنا بعاد وثمود ، ومدين وأمثالهم لما كذبوا الرسل ، فتدبروا ذلك بنظرهم إلى مساكنهم ودورهم ، وبما سمعوا على التواتر بما حل بهم ، أفليس فيه عبرة وبيان لهم ؟ ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى ، بل كان أولئك أقوى ، دليله قوله : " وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض " أي إذا أراد إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك . " إنه كان عليما قديرا " .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا} (44)

ولما بيّن أن حالهم موجب ولا بد للإيقاع بهم لما ثبت من أيام الله ، وأنكر ذلك عليهم ، وكان التقدير : ألم يسمعوا أخبار الأولين المرة وأحوالهم المستمرة من غير تخلف اصلاً في أن من كذب رسولاً أخذ ، فقال عاطفاً عليه استشهاداً على الخبر عن سنته في الأولين بما يذكر من آثارهم : { أولم يسيروا } أي فيما مضى من الزمان { في الأرض } أي التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق { فينظروا } أي فيتسبب لهم عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام ، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عنه ما جرى من مقاله ، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان ، أثبت الجار فقال : { من قبلهم } أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم ، وهذا معنى آية يس

{ أنهم إليهم لا يرجعون }[ يس : 31 ] سواء كما يأتي أن شاء الله تعالى بيانه . ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر من الاستكبار والباطن من المكر الضار ، مكّن قوة الذين خوفهم بمثل مآلهم بوصفهم بالأشدية في جملة حالية فقال : { وكانوا } أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا { أشد منهم } أي من هؤلاء { قوة } في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار .

ولما كان التقدير : فما أعجز الله أمر أمة منهم ، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم ، وما خاب له ولي ولا ربح له عدو ، عطف عليه قوله ، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير ، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف : { وما كان الله } أي الذي له جميع العظمة ؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله : { ليعجزه } أي مريداً لأن يعجزه ، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى ! وأبلغ في التأكيد بقوله : { من شيء } أي قل أو جل ! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله : { في السماوات } أي جهة العلو ، وأكد بإعادة النافي فقال : { ولا في الأرض } أي جهة السفل . ولما كان منشأ العجز الجهل ، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية : { إنه كان } أي أزلاً وأبداً { عليماً } أي شامل العلم { قديراً * } أي كامل القدرة ، فلا يريد شيئاً إلا كان .