( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض . فمن كفر فعليه كفره . ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا . ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً ) .
إن تتابع الأجيال في الأرض ، وذهاب جيل ومجيء جيل ، ووراثة هذا لذاك ، وانتهاء دولة وقيام دولة ، وانطفاء شعلة واتقاد شعلة . وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور . . إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة ، وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين ، يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم ، كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم . وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار ، وتقلب الصولجان ، وتديل الدول ، وتورث الملك ، وتجعل من الجيل خليفة لجيل . وكل شيء يمضي وينتهي ويزول ، والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول .
ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي ، فلا يخلد ولا يبقى . من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ؛ وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل ، وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل . من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل ، ويترك وراءه الذكر الجميل ، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير .
هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر ، حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور ، والطلوع والأفول ، والدول الدائلة ، والحياة الزائلة ، والوراثة الدائبة جيلاً بعد جيل :
( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) . .
وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر ، يذكرهم بفردية التبعة ، فلا يحمل أحد عن أحد شيئاً ، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً ؛ ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال ، وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف :
( فمن كفر فعليه كفره . ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً . ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً ) .
والمقت أشد البغض . ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره ? وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران ? !
{ 39 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا }
يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده ، أنه قدر بقضائه السابق ، أن يجعل بعضهم يخلف بعضا في الأرض ، ويرسل لكل أمة من الأمم النذر ، فينظر كيف يعملون ، فمن كفر باللّه وبما جاءت به رسله ، فإن كفره عليه ، وعليه إثمه وعقوبته ، ولا يحمل عنه أحد ، ولا يزداد الكافر بكفره إلا مقت ربه له وبغضه إياه ، وأي : عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم ؟ !
{ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا } أي : يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في الجنة ، فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران ، والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان .
قوله تعالى : " هو الذي جعلكم خلائف في الأرض " قال قتادة : خلفا بعد خلف ، قرنا بعد قرن . والخلف هو التالي للمتقدم ، ولذلك قيل لأبي بكر : يا خليفة الله ، فقال : لست بخليفة الله ، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا راض بذلك . " فمن كفر فعليه كفره " أي جزاء كفره وهو العقاب والعذاب . " ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا " أي بغضا وغضبا . " ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا " أي هلاكا وضلالا .
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به ، وإتقان صنعه يدل على تمام قدرة صانعه ، وتمام قدرته ملزوم لتمام علمه ، قال : { هو } أي وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم { الذي جعلكم } أي أيها الناس { خلائف } جمع خليفة ، وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به ، والخلفاء جمع خليف - قال الأصبهاني ، وقال القشيري : أهل كل عصر خليفة عمن تقدمهم ، فمن قوم هم لسلفهم جمال ، ومن قوم هم أراذل وأندال ، الأفاضل زمانهم لهم محنة ، والأراذل هم لزمانهم محنة .
ولما كان المراد توهية أمر شركائهم ، وكانت تحصل بسلب قدرتهم على ما مكن فيه سبحانه العابدين من الأرض ، أدخل الجار دلالة على أنهم على كثرتهم وامتداد أزمنتهم لا يملؤون مسكنهم بتدبيره لإماتة كل قرن واستخلاف من بعدهم عنهم ، ولو لم يمتهم لم تسعهم الأرض مع التوالد على طول الزمان ، وهم في الأصل قطعة يسيرة من ترابها فقال : { في الأرض } أي فيما أنتم فيه منها لا غيره تتصرفون فيه بما قدرتم عليه ، ولو شاء لم يصرفكم فيه ، فمن حقه أن تشكروه ولا تكفروه .
ولما ثبت أن ذلك نعمة منه ، عمرهم فيه مدة يتذكر فيه من تذكر ، تسبب عنه قوله : { فمن كفر } أي بعد علمه بأن الله هو الذي مكنه لا غيره ، واحتقر هذه النعمة السنية { فعليه } أي خاصة { كفره } أي ضرره . ولما كان كون الشيء على الشيء محتملاً لأمور ، بيّن حاله بقوله مؤكداً لأجل من يتوهم أن بسط الدنيا على الفاجر ربح وإكرام من الله له { ولا } أي والحال لأنه لا { يزيد الكافرين } أي المغطين للحق { كفرهم } أي الذي هم متلبسون به ظانون أنه يسعدهم وهو راسخون فيه غير متمكنين عنه ، ولذا لم يقل : لا يزيد من كفر لأنه قد يكون كفره غير راسخ فيسلم { عند ربهم } أي المحسن إليهم { إلا مقتاً } أي لأنه يعاملهم معاملة من يبغض ويحتقر أشد بغض واحتقار .
ولما كان المراد من هذه الصفات في حق الله تعالى غاياتها ، وكان ذكرها إنما هو تصوير لها بأفظع صورها لزيادة التنفير من أسبابها ، وكانوا ينكحون نساء الآباء مع أنهم يسمونه نكاح المقت ، نبه على أنهم لا يبالون بالتمقت إلى المحسن ، فقال ذاكراً للغاية مبيناً أن محط نظرهم الخسارة المالية تسفيلاً لهممهم زيادة في توبيخهم : { ولا يزيد الكافرين } أي العريقين في صفة التغطية للحق { كفرهم إلا خساراً * } أي في الدنيا والآخرة في المال والنفس وهو نهاية ما يفعله الماقت بالممقوت .
قوله : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } أي جعلكم خلفا بعد خلف ، أو أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن .
قوله : { فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } من أعرض وأدبر عن صراط الله ودينه الحق فإنه لا يجني بكفره وعصيانه إلا على نفسه ولا يضيرُ ذلك أحدا غيره فهو الذي يحيق به العذاب .
قوله : { وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا } المقت ، معناه البغض الشديد{[3877]} يعني : الكافرون الجاحدون لنعمة الإيمان ، العاصون لأمر الله لا يزيدهم ذلك من الله إلا بغضا شديدا وبعدا من رحمته .
قوله : { وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا } أي لا يزيدهم جحودهم وإشراكهم إلا إيغالا في الضلال الذي يفضي بهم إلى الهلاك وسوء المصير في النار .