في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .

وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء !

غير أن الإنسان - حين يخلو قلبه من الإيمان - لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين ؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء !

وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناسا - يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع - أناسا ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض . وذلك تقديرهم لقيم الناس في الأرض . ذلك أن المال والجاه عندهم كل شيء . وليس وراءهما مقياس ! ومن ثم كان تكالبهم على المال عظيما ، وحبهم له حبا طاغيا ، مما يورثهم شراهة وطمعا . كما يورثهم حرصا وشحا . . ومن ثم يكشف لهم عن ذوات صدورهم في هذا المجال ، ويقرر أن هذا الشره والشح هما علة خطئهم في إدراك معنى الابتلاء من وراء البسط والقبض في الأرزاق .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

وأنه إذا { قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي : ضيقه ، فصار يقدر قوته لا يفضل منه ، أن هذا إهانة من الله له ، فرد الله عليه هذا الحسبان بقوله :

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

" وأما إذا ما ابتلاه " أي امتحنه بالفقر واختبره . " فقدر " أي ضيق " عليه رزقه " على مقدار البُلغة . " فيقول ربي أهانني " أي أولاني هوانا . وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث : وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته . فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه اللّه بطاعته وتوفيقه ، المؤدي إلى حظ الآخرة ، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره .

قلت : الآيتان صفة كل كافر . وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه اللّه لكرامته وفضيلته عند اللّه ، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا لم يعطينه اللّه . وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على اللّه . وقراءة العامة " فقدر " مخففة الدال . وقرأ ابن عامر مشددا ، وهما لغتان . والاختيار التخفيف ؛ لقوله : " ومن قدر عليه رزقه{[16053]} " [ الطلاق : 7 ] . قال أبو عمرو : " قدر " أي قتر . و " قدر " مشددا : هو أن يعطيه ما يكفيه ، ولو فعل به ذلك ما قال " ربي أهانن " . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " ربي " بفتح الياء في الموضعين . وأسكن الباقون . وأثبت البزي وابن محيصن ويعقوب الياء من " أكرمن " ، و " أهانن " في الحالين ؛ لأنها اسم فلا تحذف . وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف ، اتباعا للمصحف . وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها ؛ لأنها رأس آية ، وحذفها في الوقف لخط المصحف . الباقون بحذفها ؛ لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء ، والسنة ألا يخالف خط المصحف ؛ لأنه إجماع الصحابة .


[16053]:آية 7 سورة الطلاق.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } الابتلاء هو الاختبار ، واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على العبد بما يبدو منه وقد كان الله عالما بذلك قبل كونه والإنسان هنا جنس ، وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على العموم فيمن كان على هذه الصفة ، وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير ثم ذكر بعده ابتلاءه بالشر كما قال في : { ونبلوكم بالشر والخير } [ الأنبياء : 35 ] وأنكر عليه قوله حين الخير : { ربي أكرمن } وقوله حين الشر : { ربي أهانني } ويتعلق بالآية سؤالان :

السؤال الأول : لم أنكر الله على الإنسان قوله ربي أكرمني وربي أهانني ؟ والجواب من وجهين : أحدهما : أن الإنسان يقول : ربي أكرمني على وجه الفخر بذلك والكبر لا على وجه الشكر ، ويقول ربي أهانني على وجه التشكي من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله ، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر .

والآخر : أن الإنسان اعتبر الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك فإن الله قد يبسط الرزق لأعدائه ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة عن الآخرة وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا لأنه لا يصدق بالآخرة ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك .

السؤال الثاني : إن قيل : قد قال الله { فأكرمه } فأثبت إكرامه فكيف أنكر عليه قوله : { ربي أكرمن } ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام وإنما أنكر عليه . ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشكر أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما ذكرنا في معنى الإنكار .

الثاني : أنه أنكر عليه قوله : { ربي أكرمن } إذا اعتقد أن إكرام الله له باستحقاقه للإكرام على وجه التفضل والإنعام كقول قارون : { إنما أوتيته على علم من عندي } .

الثالث : أن الإنكار إنما هو لقوله : { ربي أهانن } لا لقوله : { ربي أكرمن } فإن قوله : { ربي أكرمن } اعتراف بنعمة الله وقوله : { ربي أهانن } شكاية من فعل الله .

{ فقدر عليه رزقه } أي : ضيقه وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل : معنى التشديد جعله على قدر معلوم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

{ وأما } هو { إذا } وأكد على نمط الأول فقال : { ما ابتلاه } أي ربه ليظهر صبره أو جزعه .

ولما كان قوله في الأول " فأكرمه ونعمه " كناية عن " فوسع عليه " قابله هنا بقوله : { فقدر } أي ضيق تضييق من يعمل الأمر بحساب وتقدير { عليه رزقه } فهو كناية عن الضيق كما أن العطاء بغير حساب كناية عن السعة ، فجعله بمقدار ضرورته الذي لا يعيش عادة بدونه ، ولم يجعله فيه فضلاً عن ذلك ولم يقل " فأهانه " موضع " قدر عليه " تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى وصوناً لأهل الله عن هذه العبارة لأن أكثرهم مضيق عليه في دنياه ، ولأن ترك الإكرام لا ينحصر في كونه إهانة { فيقول } أي الإنسان بسبب الضيق : { ربي } أي المربي لي { أهانن * } فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ، ويكون ذلك أكبر همه .