ثم يرسم تلك الصورة المبدعة المثيرة للسخرية والرجل يكد ذهنه ! ويعصر أعصابه ! ويقبض جبينه ! وتكلح ملامحه وقسماته . . كل ذلك ليجد عيبا يعيب به هذا القرآن ، وليجد قولا يقوله فيه :
( إنه فكر وقدر . فقتل ! كيف قدر ? ثم قتل ! كيف قدر ? ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر ) . .
لمحة لمحة . وخطرة خطرة . وحركة حركة . يرسمها التعبير ، كما لو كانت ريشة تصور ، لا كلمات تعبر ، بل كما لو كانت فيلما متحركا يلتقط المشهد لمحة لمحة ! ! !
لقطة وهو يفكر ويدبر ومعها دعوة هي قضاء( فقتل ! )واستنكار كله استهزاء ( كيف قدر ? )ثم تكرار الدعوة والاستنكار لزيادة الإيحاء بالتكرار .
إنه فكر : إنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن والرسول من الاختلاق .
وقدر : ورتب وهيّأ في نفسه قولا كاذبا في القرآن والنبيّ .
تأتي هذه الآيات كالتعليل لما سبقها ، أي أنه قد استحق العذاب بسبب مواقفه المعادية للإسلام .
فقد ثبت أنه قد مدح القرآن الكريم حين سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحين سمعه من أبي بكر الصديق ، فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، ولئن صبأ الوليد لتصبأن قريش كلها ، فذهب إليه أبو جهل ، وحرّضه على أن يقف موقفا معاديا لمحمد صلى الله عليه وسلم وللقرآن الكريم ، فذهب إلى قومه وقال : تزعمون أن محمدا مجنون أو ساحر أو كذاب أو شاعر ، فهل جربتم عليه الجنون أو السحر أو الكذب أو الشعر ، قالوا : لا ، ثم قال قومه له : فماذا تقول أنت يا أبا الوليد ؟ فأخذ يعمل عقله ، ويعيد التفكير والتقدير مرارا ، حتى يقول قولا يخالف ضميره ، ويخالف مدحه السابق للقرآن ، ويتناسب مع إعراضه عن الحق بعد ظهوره له ، واستكباره من الهدى بعد أن لاحت بوادره ، فاتهم محمدا بالسّحر ، وأنه يفرّق بين المرء وقومه ، والمرء وزوجته ، والمرء وأخيه ، واتهم القرآن بأنه كلام البشر ، فاستحق الوليد عذاب الضمير في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة .
إنه فكّر في أمر القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقدّر وزوّر كلاما في نفسه ، قد حضّره ليقوله عن القرآن ، عنادا ومكابرة .
{ إنه فكر وقدر } الآيات ، ذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } إلى قوله : { المصير }( غافر : 1-2 ) قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته القرآن أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلهم ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال له الوليد : مالي أراك حزيناً يا ابن أخي ؟ قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد ، فقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال لهم : تزعمون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ قالوا : لا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة ، من صدقه- فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه ؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر ، فذلك قوله عز وجل : { إنه فكر } في محمد والقرآن ، { وقدر } في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن .
قوله تعالى : " إنه فكر وقدر " يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و " قدر " أي هيأ الكلام في نفسه ، والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته ، وذلك أنه لما نزل : " حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " [ غافر : 1 ] إلى قوله : " إليه المصير " سمعه الوليد يقرؤها فقال : والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر . فقالت قريش : صبا الوليد لتصبون قريش كلها . وكان يقال للوليد ريحانة قريش ؛ فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه . فمضى إليه حزينا ؟ فقال له : مالي أراك حزينا . فقال له : ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليد وتكبر ، وقال : أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه ، فأنتم تعرفون قدر مالي ، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك ، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق ؟ قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله . قال : فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط ؟ قالوا : لا والله . قال : فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط ، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل{[15573]} رأيتموه كذلك ؟ قالوا : لا والله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه . فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ ففكر في نفسه ، ثم نظر ، ثم عبس ، فقال ما هو إلا ساحر ! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ فذلك قوله تعالى : " إنه فكر " أي في أمر محمد والقرآن " وقدر " في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما .
ولما حصل التشوف إلى بعض ما عاند به الآيات ، قال مبيناً لذلك مؤكداً لاستبعاد العقلاء لما صنع لبعده عن الصواب ومعرفة كل ذي لب أنه كذب : { إنه } أي هذا العنيد { فكر } أي ردد{[69780]} فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن { وقدر* } أي أوقع تقديراً للأمور التي يطعن بها فيه وقايتها في نفسه ليعلم أيها أقرب {[69781]}إلى القبول{[69782]} . ولما كان تفكيره وتقديره قد أوقع غيره في الهلاك بمنعه من حياة الإيمان أصيب هو بما منعه{[69783]} من حياة نافعة في الدارين ، وذلك هو الهلاك{[69784]} الدائم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.