( فقالوا : أبشرا منا واحدا نتبعه ? إنا إذن لفي ضلال وسعر . أألقي الذكر عليه من بيننا ? بل هو كذاب أشر . . )
وهي الشبهة المكرورة التي تحيك في صدور المكذبين جيلا بعد جيل : ( أألقي الذكر عليه من بيننا )? كما أنها هي الكبرياء الجوفاء التي لا تنظر إلى حقيقة الدعوة ، إنما تنظر إلى شخص الداعية : ( أبشرا منا واحدا نتبعه ? ) !
وماذا في أن يختار الله واحدا من عباده . . والله أعلم حيث يجعل رسالته . . فيلقي عليه الذكر - أي الوحي وما يحمله من توجيهات للتذكر والتدبر - ماذا في هذا الاختيار لعبد من عباده يعلم منه تهيؤه واستعداده . وهو خالق الخلق . وهو منزل الذكر ? إنها شبهة واهية لا تقوم إلا في النفوس المنحرفة . النفوس التي لا تريد أن تنظر في الدعوى لترى مقدار ما فيها من الحق والصدق ؛ ولكن إلى الداعية فتستكبر عن اتباع فرد من البشر ، مخافة أن يكون في اتباعها له إيثار وله تعظيم . وهي تستكبر عن الإذعان والتسليم .
ومن ثم يقولون لأنفسهم : أبشرا منا واحدا نتبعه ? إنا إذا لفي ضلال وسعر . . أي لو وقع منا هذا الأمر المستنكر ! وأعجب شيء أن يصفوا أنفسهم بالضلال لو اتبعوا الهدى ! وأن يحسبوا أنفسهم في سعر - لا في سعير واحد - إذا هم فاءوا إلى ظلال الإيمان !
ومن ثم يتهمون رسولهم الذي اختاره الله ليقودهم في طريق الحق والقصد . يتهمونه بالكذب والطمع : ( بل هو كذاب أشر ) . . كذاب لم يلق عليه الذكر . أشر : شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة ! وهو الاتهام الذي يواجه به كل داعية . اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستارا لتحقيق مآرب ومصالح . وهي دعوى المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس ومحركات القلوب .
قوله تعالى : " أألقي الذكر عليه من بيننا " أي خصص بالرسالة من بين آل ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا ؟ ! وهو استفهام معناه الإنكار . " بل هو كذاب أشر " أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق . والأشر المرح والتجبر والنشاط . يقال : فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا :
فيدركنا فَغِمٌ داجن *** سميع بصير طُلُوبٌ نَكِرْ{[14482]}
أَلَصُّ الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضلوع *** تَبُوعٌ أرِيبٌ نَشِيطٌ أَشِرْ{[14483]}
وقيل : " أشر " بطر . والأشر البطر ، قال الشاعر :
أَشِرْتُم بلُبْسِ الخَزِّ لما لَبِسْتُم *** ومن قبل ما تدرون مَنْ فَتَحَ القُرَى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران ، وقوم أُشَارى مثل سكران وسكارى ، قال الشاعر{[14484]} :
وَخَلَّتْ وُعُولاً أُشَارَى بها *** وقد أَزْهَفَ الطعنُ أبطالَها
وقيل : إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها ، والمعنى واحد . وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال . وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة " أشر " بفتح الشين وتشديد الراء يعني به : أشرنا وأخبثنا .
قوله : { أألقي الذكر عليه من بيننا } الاستفهام للإنكار . أي اختصه الله بالرسالة والوحي من بين آل ثمود وفيهم من هو خير منه مالا وحسبا وشرفا .
قوله : { بل هو كذاب أشر } الأشر معناه البطر {[4406]} وبل للإضراب عن كون صالح نبيا صادقا أرسله الله إليهم ، وإنما هو كذاب بطر ، حمله بطره أن يطلب التعظم علينا والتكبر من غير استحقاق لذلك .