( وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) . .
يتحدثون إلى قومهم ، عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن ، يقولون : إنهم كانوا يظنون - كما أنكم تظنون - أن الله لن يبعث رسولا . ولكن ها هو ذا قد بعث رسولا ، بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد . . أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب - كما ظننتم - فلم يعملوا للآخرة شيئا ، وكذبوا ما وعدهم الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمرها ، لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها .
وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة ، وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة الله في خلق البشر . فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال [ كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس ، وطرد من رحمة الله بمعصيته الفاجرة ، وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج ] ومن ثم اقتضت رحمة الله أن يعين أولئك البشر بالرسل ، يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير ، ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى . فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحدا .
هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل . فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا ، لحكمة أرادها الله ، وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه ؛ فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها ، وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا . فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحدا من الناس . فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله سبحانه وتعالى . .
وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم ، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .
7- وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا .
ظنّ بعض الإنس كما ظن الجن أن الله لن يبعث رسولا لهداية الناس ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وإرشادهم إلى العقيدة الصحيحة ، والتفكير الأمثل السويّ .
أو تفهم الآية على النحو الآتي :
ظن كفار قريش كما ظنّت الجن أنه لا بعث ولا حشر ، ولا حساب ولا جزاء ، وكلاهما فهم خاطئ . فالله يرسل الرسل لهداية الناس ، والله أكد أن البعث حق : قل بلى وربي لتبعثن . . . ( التغابن : 7 ) .
حتى يجازي كل إنسان بما عمل ، بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا .
قوله تعالى : " وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا " هذا من قول الله تعالى للإنس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم . الكلبي : المعنى : ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه{[15449]} يقيم به الحجة عليهم . وكل هذا توكيد للحجة على قريش ؛ أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد ، فأنتم أحق بذلك .
ولما كان التقدير : فضل{[69040]} كل من الفريقين بالآخر ضلالاً بعيداً حتى أبعدوا عن الشرائع النبوية ، واعتقدوا ما لا يجوز اعتقاده من التعطيل واعتقاد الطبيعة ، فلا يزال الأمر هكذا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا رسول يهديهم ولا بعث للأرض على بارئهم ، عطف عليه{[69041]} قولهم مؤكدين في قراءة الكسر إشارة إلى ظهور{[69042]} دلائل البعث ، وأنه لا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به منبهاً على أن الأهواء والأغاليط قد يتطابق{[69043]} عليها الجم الغفير ، حثاً للمهتدي على أن لا يستوحش في طريق الهدى لقلة السالكين ، ولا يغتر بطرق{[69044]} الردى لكثرة الهالكين : { وأنهم } أي الإنس إن كانوا يخاطبون{[69045]} الجن ، والجن إن كانوا يخاطبون الإنس { ظنوا } أي الجن أو{[69046]} الإنس ظناً ليسوا فيه على ثلج والظن قد يصيب ، وقد يخطىء وهو أكثر { كما ظننتم } أي أيها الجن أو{[69047]} الإنس ، والمعنى في قراءة الفتح : وأوحى إليّ أن الإنس أو الجن ظنوا ، وسدوا{[69048]} عن مفعولي " ظن " بقولهم : { أن } أي أن الشأن العظيم { لن } أكد للدلالة على شدة إنكارهم لذلك { يبعث } وأشاروا إلى{[69049]} خطأ هذا الظن بالتعبير بالجلالة فقالوا : { الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة { أحداً * } أي بعد موته لما لبس به{[69050]} عليهم إبليس حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن ، أو أحدا من الرسل{[69051]} يزيل به{[69052]} عماية الجهل وما عليه الإنس {[69053]}من استغواء{[69054]} الجن لهم وغير ذلك من الضلال ، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظن كاذب وأنه لا بد من البعث في الأمرين لأنه حكمة الملك وخاصة الملك .
قوله : { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا } يعني وأن الإنس قد ظنوا كما ظننتم أيها الجن أن الله لن يبعث أحدا بعد الموت . أو العكس وهو أن الجن قد ظنوا كما كنتم تظنون أيها المشركون من الإنس أن الله لن يبعث أحدا بعد الموت . أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا{[4653]} .