فإن الله الذي يوعدهم هذا الإيعاد ، هو مالك السماوات والأرض وحده . فهو الذي يملك المغفرة لمن يشاء ، وهو الذي يملك العذاب لمن يشاء .
والله يجزي الناس بأعمالهم ولكن مشيئته مطلقة لا ظل عليها من قيد ، وهو يقرر هذه الحقيقة هنا لتستقر
في القلوب . غير متعارضة مع ترتيب الجزاء على العمل ، فهذا الترتيب اختيار مطلق لهذه المشيئة .
ومغفرة الله ورحمته أقرب . فليغتنمها من يريد ، قبل أن تحق كلمة الله بعذاب من لم يؤمن بالله ورسوله ، بالسعير الحاضرة المعدة للكافرين .
14- { ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما } .
هو سبحانه الملك الحقيقي لهذا الكون كله ، سمائه وأرضه ، وبحاره وأنهاره ، وليله ونهاره ، وشمسه وقمره : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا } . ( الإسراء : 44 ) .
وهو سبحانه : { يغفر لمن يشاء } . ممن تاب وأناب ، ودخل في محراب الإنابة والرجوع إلى الله ، وفيه حث للمنافقين والكافرين وجميع الناس على الدخول في رحمته الواسعة ، والإنابة والرجوع إليه ، والندم على ارتكاب النفاق والشقاق .
{ ويعذب من يشاء } . فلا يقدر أحد على دفع العذاب عنكم إن أراد الله تعذيبكم ، وفيه تحريض لهم على عدم اللجوء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليعاملهم على ظواهرهم ويستغفر لهم ، لأن الله تعالى هو المطلع على السرائر ، وبيده وحده المغفرة لمن يشاء ، والعذاب لمن يشاء .
أي : كان ولا يزال واسع المغفرة ، سبقت رحمته غضبه ، وفتح أبوابه للتائبين .
قال ابن جرير الطبري : هذا من الله جل ثناؤه حث لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على التوبة والمراجعة إلى أمر الله ، في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يقول لهم : بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يغفر للتائبين ، لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده ، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها .
{ 14 } { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
أي : هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية ، والأحكام الشرعية ، والأحكام الجزائية ، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية ، فقال : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } وهو من قام بما أمره الله به { وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } ممن تهاون بأمر الله ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة ، فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين ، ويتجاوز عن الخطائين ، ويتقبل توبة التائبين ، وينزل خيره المدرار ، آناء الليل والنهار .
ولما انقضى حديث الجنود عامة ثم خاصة من المنتدبين{[60290]} والمخلصين وختم بعذاب الكافرين ، وكان المتصرف في الجنود ربما كان بعض خواص الملك ، فلا يكون تصرفه فيهم تاماً ، وكان الملك قد لا يقدر على عذاب من أراد من جنوده ، وكان إذا قدر قد لا يقدر على العذاب بكل ما يريده من السعير الموصوف {[60291]}وغيره لعدم{[60292]} عموم ملكه{[60293]} قال تعالى عاطفاً على آية الجنود : { ولله } أي {[60294]}الملك الأعظم{[60295]} وحده { ملك السماوات والأرض } أي من الجنود وغيرها ، يدبر ذلك كله كيف يشاء {[60296]}لا راد لحكمه ولا معقب{[60297]} .
ولما{[60298]} لم يكن في هؤلاء من عذب بما عذب الأمم الماضية من الريح وغيرها ، لم يذكر ما بين الخافقين ، وذكر نتيجة التفرد بالملك بما{[60299]} يقتضيه الحال من الترغيب والترهيب : { يغفر لمن يشاء } أي لا اعتراض لأحد عليه {[60300]}بوجه ما{[60301]} { ويعذب من يشاء } أي{[60302]} لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافيه شيء ، وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة ، وعلم من هذا التقسيم المبهم أيضاً-{[60303]} أن منهم من يرتد فيعذبه ، ومنهم من يثبت{[60304]} على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك ، لأنه لا يسأل عما يفعل وملكه تام ، فتصرفه فيه عدل كيفما كان . ولما كان من يفعل الشيء في وقت قد لا يستمر على وصف القدرة عليه قال تعالى : { وكان الله } أي المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً ، لم يتجدد{[60305]} له شيء لم يكن . ولما ابتدأ الآية بالمغفرة ترغيباً في التوبة ، ختم بذلك لأن المقام له ، وزاد الرحمة تشريفاً لنبي المرحمة{[60306]} بالترغيب والدلالة على أن رحمته غلبت غضبه فقال : { غفوراً } أي لذنوب المسيئين { رحيماً * } أي مكرماً بعد الستر بما لا تسعه العقول ، وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.