وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها [ التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ] وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر : ( وإذا البحار فجرت ) . . فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ، وهو أشد هولا . أو على أي نحو آخر . وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول ؛ وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة !
وقد ورد في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن تحت البحر نارا ، وتحت النار ماء ) .
فإذا اختل نظام الكون وتقطعت أوصاله ، وسيّرت الجبال ، حدثت الزلازل التي تجعل النيران تغلب على البحار .
وقد قال القرآن الكريم في موضع آخر : وإذا البحار فجّرت . ( الانفطار : 3 ) .
فتفجير عناصر المياه ، وانفصال الهيدروجين عن الأكسجين فيها ، أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ، وهو أشدّ هولا ، أو على أيّ نحو آخر ، وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصوّر مداها تنطلق من البحار ، فإن تفجير قدر محدود من الذرّات في القنبلة الذريّة أو الهيدروجينية ، يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ، فإذا تفجّرت ذرّات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشريّ يعجز عن تصوّر هذا الهول ، وتصوّر جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة . ii .
ومن المفسرين من ذهب إلى أن تسجير البحار ، هو أن تقطّع الزلازل والبراكين ما بينها من حواجز ، حتى تصبح بحرا واحدا يختلط فيه الماء العذب بالماء الملح ، ورجح الشيخ محمد عبده هذا الرأسiii ، كما رجحه الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن ، ولم يقبل الرأي الأول ، وهو تحوّل الماء إلى نار .
أما الأستاذ الدكتور زغلول النجارiv فقد رجّح أن تسجير الحار هو تحوّلها إلى نار بسبب انفصال الأكسجين عن الهيدروجين .
واعتبر ذلك من إعجاز القرآن الكريم ، حيث أشار إلى معان علمية أكّدها العلم بعد زمن طويل من نزول القرآن الكريم ، وقد نزلت على نبيّ أمّي ، لا علم له بذلك إلا عن طريق الوحي .
وقد أيّد العلم وجود طبقات من النار تحت البحار ، ويؤيد ذلك ما نراه في الزلازل والبراكين التي تقذف بالحمم والنيران الملتهبة ، والصخور المذابة التي تتحول إلى صهارة سائلة من أثر البراكين .
وقد يكون تسجير البحار إضرامها نارا ، فإن ما في باطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا ، أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا ، ولا يبقى في البحار إلا النار ، أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار ، حيث ورد أن البحر غطاء جهنم ، وإن لم يعرف في صحيحها ، ولكن البحث العلمي أثبت ذلك . v .
وفي ختام هذه الآية أذكّر القارئ بأن التفسير العلمي للقرآن الكريم له ثلاثة اتجاهات :
1- الاتجاه الأول : رفض التفسير العلمي للقرآن جملة وتفصيلا ، ومن روّاد هذا الاتجاه الإمام الشاطبي في كتابه ( الموافقات ) ، الذي ذهب إلى أن القرآن الكريم ينبغي أن يفهم كما فهمه العربي أول مرة ، ورفض الإمام الشاطبي التأويل للقرآن ، وحذا حذوه جانب من العلماء .
2- الاتجاه الثاني : يرى أن القرآن الكريم كتاب علم ، وقد اشتمل على ألوان من الإعجاز ، منها : الإعجاز الغيبي ، والإعجاز العلمي ، والإعجاز اللفظي ، والإعجاز البياني ، وفي العصور القديمة ساد التحدّي بالإعجاز اللفظي والأسلوبي والبلاغي ، أما في العصور اللاحقة فقد ساد التحدي بالإعجاز العلمي ، ومن أساطين المفسرين في ذلك الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ، والشيخ طنطاوي جوهري في العصر الحديث .
3- الاتجاه الثالث : وهو اتجاه وسط بين الاتجاهين ، يرى أن القرآن الكريم كتاب هداية بالدرجة الأولى ، وأن الله أنزل القرآن هدى ونورا ليتدبر الناس آياته ، ويتفهّموا معانيه ، ويعلموا بأوامره ، ويتجنبوا نواهيه ، والأساس عندهم أن ينكب الناس على فهم روح القرآن ومقاصده ، وأهدافه العليا ، وآفاقه السامقة كما هو ، وإذا حدث أن تأكد لدينا دليل علمي فلا بأس من ذكره بجوار تفسير القرآن ، للاستئناس به وبيان صدق القرآن الكريم الذي تأكد بالعلم ، وتأيد بالدليل والبرهان ، ومن أئمة الاتجاه الثالث الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر الأسبق ، فهو يقول :
لا ينبغي أن نجرّ الآية إلى العلم عند تفسيرها ، ولا أن نجر العلم إلى الآية ، ولكن إن كانت هناك حقيقة علمية مقررة فلا بأس من ذكرها عند تفسير الآية .
وهذا الاتجاه اتجاه وسط ، ينصب ويتجه إلى القرآن بالدرجة الأولى ، ويستشهد من حقائق العلم بنصيب ما ، بحيث لا يهيأ للمشاهد أن القرآن الكريم كتاب طبيعة أو كيمياء أو جغرافيا أو طبوغرافيا أو فلك أو طبقات الأرض ، أو غير ذلك من العلوم المدنية أو العسكرية أو غيرها .
فنحن أمام كتاب معجز بذاته ، وهدايته وصدقه ، وأخباره وأسلوبه ، وفصاحته وبلاغته ، ومع ذلك فإن العلوم والفنون لم تصطدم بأب حقيقة علمية قررها القرآن ، بل إن العلم ينزع إلى تأكيد صدقه .
كما قال سبحانه : سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ( فصلت : 53 ) .
والخلاصة : القرآن غالب غير مغلوب ، فاطمئنوا على حفظه وإعجازه ، وسيروا في بيان إعجازه العلمي على مهل وهدوء ويسر ، وركّزوا على بيان هدايته حين أنزل ، وحين بعث أمة كانت خير أمة أخرجت للناس ، ولا مانع من بيان الإعجاز العلمي بالقدر المناسب الميسّر ، والله ولي التوفيق .
سُجّرت : تأججت نارا ، واختلط بعضها ببعض .
وإذا تأجّجت البحار وغدَتْ نيرانا ملتهبة ( وتسجيرُ البحار يكون بتشقق الأرض وتفجر النيران من باطنها فيظهر ما فيه من نيران متأجّجة كما نشاهد من ثورات البراكين ) ، يذهب الماء عند ذلك بخارا ، ولا يبقى في البحار إلا النار . وهذا معنى قوله تعالى { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } .
قرأ الجمهور : سجّرتْ بتشديد الجيم المكسورة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : سجرت بتخفيف الجيم .
{ وإذا البحار سجرت } قرأ أهل مكة والبصرة بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، قال ابن عباس : أوقدت فصارت ناراً تضطرم ، وقال مجاهد ومقاتل : يعني فجر بعضها في بعض ، العذب والملح ، فصارت البحور كلها بحراً واحداً . وقال الكلبي . ملئت ، وهذا أيضاً معنى قوله : { والبحر المسجور } ( الطور- 6 ) ، والمسجور : المملوء ، وقيل : صارت مياهها بحراً واحداً من الحميم لأهل النار . وقال الحسن : يبست ، وهو قول قتادة ، قال : ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة . وروى أبو العالية عن أبي بن كعب ، قال : ست آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ، وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحش ، وماج بعضهم في بعض ، فذلك قوله : { وإذا الوحوش حشرت } اختلطت ، { وإذا العشار عطلت } { وإذا البحار سجرت } قال : قالت الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر : فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج ، قال : فبينما هم كذلك إذ تصعدت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم .
ولما أفهم هذا الحشر ، ذكر ما يدل على ما ينال أهل الموقف من الشدائد من شدة الحر فقال : { وإذا البحار } أي على كثرتها { سجرت * } أي فجر بعضها إلى بعض حتى صارت بحراً واحداً وملئت{[71842]} حتى كان ما فيها أكثر {[71843]}منها وأحمئت{[71844]} حتى كان كالتنور التهاباً وتسعراً {[71845]}فكانت شراباً لأهل النار وعذاباً عليهم ، ولا يكون هذا إلا وقد حصل من الحر ما يذيب الأكباد .