اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ} (6)

قوله تعالى : { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } .

قرأ ابن كثيرٍ{[59444]} وأبو عمروٍ : «سُجِرتْ » بتخفيف الجيم .

والباقون : بتثقيلها على المبالغة والتنكير .

والمعنى : مُلئتْ من الماء ، والعرب تقول : سجرتُ الحوضَ أسجره سجراً إذا ملأتهُ ، وهو مسجورٌ ، والمسجورُ والسَّاجرُ في اللغة : المَلآن .

وروى الربيع بن خيثمٍ : «سُجِّرَت » : فاضت وملئت ، قال تعالى : { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } [ الانفطار : 3 ] .

وقال الحسن : اختلطت وصارت شيئاً واحداً{[59445]} .

وقيل : أرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها حتى امتلأت .

وقال القشيريُّ : يرفع الله الحاجز الذي ذكره - تعالى - في قوله : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] ، فإذا رفع ذلك البرزج تفجَّرت مياه البحار ، فعمَّت الأرض كلَّها ، وصارت بحراً واحداً .

وعن الحسن وقتادة وابن حيان : تيبس ، فلا يبقى من مائها قطرةٌ{[59446]} .

قال القشيريُّ : وهو من سجرتُ التنور أسجره سجراً : إذا أحميته ، وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرُّطوبة ، وتقدم اشتقاق هذه المادة .

قال القفالُ{[59447]} : وهذا التأويل يحتمل وجوهاً :

الأول : أن تكون جهنم في قعر البحار ، فهي الآن غير مسجرة بقوام الدنيا ، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تعالى تأثير ذلك النِّيران إلى البِحَار ، فصارت مسجورة بالكلية ، وهذا قولُ ابن زيد ، وعطية ، وسفيان ، ووهب ، وأبيّ ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس في رواية ، والضحاك - رضي الله عنهم - أوقدت فصارت ناراً .

الثاني : قال ابن عباس : يُكوِّر الله تعالى الشمس ، والقمر ، والنجوم في البحار ، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك يبعث الله - تعالى - [ لها ]{[59448]} ريحاً دبوراً ، فتنفخه حتى تصير ناراً ، كذا جاء في الحديث{[59449]} .

الثالث : أن يخلق الله - تعالى - تحت البحار نيراناً عظيمة حتى تسجر تلك المياه .

قال ابن الخطيب{[59450]} : وهذه وجوه متكلِّفة ، ولا حاجة إلى شيء منها ؛ لأن القادر على تخريب الدنيا يقدر على أن يفعل في البحار ما شاء من تسجير مياهها ، ومن قلب مياهها ناراً{[59451]} من غير حاجةٍ إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر ، أو يكون تحتها نار جهنم .

قال القرطبيُّ{[59452]} : وروي عن ابنِ عمرو - رضي الله عنه - : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم{[59453]} .

وقال أبي بن كعب رضي الله عنه : ستّ آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذا ذهب ضوءُ الشمس ، فتحيَّروا ودهشُوا ، فبينما هم كذلك ينظرون إذا تناثرت النجوم ، وتساقطت ، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت ، واحترقت فصارت هباءً منبثاً ، ففزعتِ الجنُّ إلى الإنسِ ، وفزعتِ الإنسُ إلى الجنِّ ، واختلط الدواب ، والوحش ، والهوام والطير ، وماج بعضها في بعض ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } ، ثم قالت الجنُّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجَّجُ ، فبينما هم كذلك إذا تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذا جاءتهم ريح ، فأماتتهم{[59454]} .

وقال ابن الخطيب{[59455]} : وهذه العلامات يمكن أن تكون عند خراب الدنيا ، وأن تكون بعد القيامة .

وقيل : معنى «سُجِّرتْ » يحمر ماؤها حتى يصير كالدَّم ، من قولهم : «عَيْنٌ سَجراءُ » . أي : حمراء .


[59444]:ينظر: السبعة 673، والحجة 6/379، وإعراب القراءات 2/424، وحجة القراءات 750.
[59445]:ذكره الطبري في "تفسيره" (12/150).
[59446]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/461) عن قتادة والحسن. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/527) عن الحسن والضحاك وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[59447]:ينظر: الفخر الرازي 31/63.
[59448]:سقط من أ.
[59449]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/520) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "الأهوال" وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس.
[59450]:ينظر: الفخر الرازي 31/36.
[59451]:في أ: نيرانا.
[59452]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/151.
[59453]:ينظر: تفسير القرطبي (19/151).
[59454]:ينظر المصدر السابق.
[59455]:ينظر: الفخر الرازي 31/63.