وبعد التهديد المخيف ، والوعيد الرعيب ، يعود فيلمس قلوبهم لمساً رفيقاً ، بالتذكير بأنعم الله التي سخرها لهم في هذا الكون العريض :
( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
إن هذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . يحظى من رعاية الله - سبحانه - بالقسط الوافر ، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة ، وينتفع بها على شتى الوجوه . وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها ، والذي تسير وفقه ولا تعصاه ! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة ؛ بل ما استطاع أن يعيش معها ؛ وهو هذا القزم الصغير ، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام .
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان ، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها ؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل ، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها ! ( لتجري الفلك فيه بأمره ) . . فهو - سبحانه - الذي خلق البحر بهذه الخصائص ، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص ؛ وجعل خصائص الضغط الجوي ، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض . . وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر . وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به ، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى : ( ولتبتغوا من فضله )كالصيد للطعام وللزينة ، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة ؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار .
سخر الله للإنسان البحر والفلك ، ليبتغي من فضل الله ؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام ، وعلى التسخير والاهتداء : ( ولعلكم تشكرون ) . . وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق ، وإلى الارتباط بذلك الأفق ، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه . . إلى الله . .
12- { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } .
ما أجل نعم الله تعالى على الإنسان ، فهذا المخلوق البسيط يسر الله له طائفة من النعم ، ومنها هذا البحر الهائج المائج المتلاطم الأمواج ، الممتد الكبير ، يسخره الله للإنسان ، ويجعل سطح الماء سائلا أملس ، قابلا لأن تجري عليه السفينة المكونة من ألواح الخشب ، تحركها الرياح أو الفحم أو الكهرباء ، وفي ذلك نجد عددا من الموافقات تتم في الكون مثل شدة الحرارة ، وحركة الشمس ، وتسخير الهواء والماء ، وصناعة السفن ، وإلهام الإنسان الاستفادة من هذه النعم ، ولينقل البضائع والتجارة من بلد لآخر حتى يستفيد الجميع ، ولعلهم يشكرون خالقهم وصاحب الأنعم المتعددة عليهم .
{ الله الذي سخر لكم البحر } : أي الله المعبود بحق لا الآلهة الباطلة سخر لكم أي لأجلكم البحر بأن جعله أملس تطفو فوقه الأخشاب ونحوها .
{ لتجرى الفلك فيه بأمره } : أي جعله كذلك لتجري السفن فيه بإذن الله تعالى .
{ ولتبتغوا من فضله } : أي لتسافروا إلى طلب الرزق من إقليم إلى إقليم .
{ ولعلكم تشكرون } : أي رجاء أن تشكروا نعم الله عليكم .
مازال السياق الكريم في هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى : { الله الذي سخر لكم } تذكير لأولئك المعرضين بالحجج والآيات الدالة على وجوب الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فهو تعالى يعرفهم أن ما بهم من نعم هي من الله لا من غيره من تلك الآلهة الباطلة .
{ 12-13 } { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره ، { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى فإنكم إذا شكرتموه زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيلا .
ولما ذكر سبحانه وتعالى{[57984]} صفة الربوبية ، ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته ، فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها{[57985]} بالاسم الأعظم : { الله } أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات{[57986]} الكمال . ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح ، ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال : { الذي سخر } أي وحده من غير حول منكم في ذلك بوجه من الوجوه { لكم } أيها الناس بركم وفاجركم { البحر }{[57987]} بما جعل فيه مما لا يقدر عليه{[57988]} إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير{[57989]} فيه بالرقة والليونة والاستواء مع الريح الموافقة وأنه يطفو{[57990]} عليه ما كان من الخشب مع ما علم من صنعته على هذا الوجه الذي تم به المراد { لتجري الفلك } أي السفن { فيه بأمره } ولو كانت موقرة{[57991]} بأثقال{[57992]} الحديد الذي يغوص فيه{[57993]} أخف شيء منه كالإبرة وما دونها .
ولما كان التقدير : لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به ، عطف عليه قوله : { ولتبتغوا } أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع{[57994]} وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك { من فضله } لم يصنع شيئاً منه-{[57995]} سواه . ولما كان التقدير : لتظهر عليكم آثار نعمته ، عطف عليه قوله تعالى : { ولعلكم تشكرون * } أي ولتكونوا بحيث يرجو منكم من ينظر حالكم ذلك شكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة .