وهو عذاب حاضر قريب ؛ وإن كان موعده آتياً بعد حين . ولكنه في حقيقته قائم موجود :
ولفظ ( من ورائهم )مقصودة ظلاله فوق معناه . وظلاله . . أنهم لا يرونه لأنه من ورائهم ولا يتقونه لأنهم في غفلة عنه ؛ ولا يفوتهم فهم سيقعون فيه !
( ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ) . .
فليس شيء مما عملوا أو ملكوا بنافعهم شيئاً ، فعملهم - ولو صلح - هباء لا يقدرون على شيء منه ، وهو قائم على غير أساس من إيمان . وملكهم زائل لا يصاحبهم منه شيء فيه غناء . وأولياؤهم من دون الله - آلهة أو أعواناً وجنداً أو خلاناً - لا يملكون لهم نصراً ولا شفاعة .
فوق أنه مهين . فجرمهم في الاستهزاء بآيات الله قبيح يقتضي المهانة ، جسيم يقتضي جسامة التعذيب . .
من ورائهم : الوراء : اسم الجهة التي يواريها الشخص من خلف وقدام .
9 ، 10- { وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم } .
كان أبو جهل أو النضر بن الحارث أو غيرهما يستهزئ بآيات القرآن ، والمعنى : وإذا سمع من القرآن شيئا استهزأ به واستهان ، وقاوم الإيمان به ، فسيلقى عذابا مذلا مهينا في جهنم ، من خلفه ومن أمامه جهنم يوم القيامة ، وكلمة : وراء ، اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو من قدام ، فهي مشترك لفظي ، تطلق على الشيء وضده ، أي ستلحقه النار من أمامه ومن خلفه ، ولن يجد نصيرا ينصره ، ولن ينفعه الحرام الذي اكتسبه ، واللهو الذي آثره على القرآن ، كما أن الأصنام والأوثان التي عبدها لن تنقذه ، ولن تقدم له أي منفعة ، وقد أعد له عذاب عظيم مخيف مؤلم .
{ من ورائهم جهنم } : أي أمامهم جهنم وذلك يوم القيامة ، والوراء يطلق على الأمام كذلك .
{ ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً } : أي لا يكفي عنهم ما كسبوه من المال والأفعال التي كانوا يعتزون بها شيئاً من الإغناء .
{ ولاما اتخذوا من دون الله من أولياء } : أي ولا يغنى عنهم كذلك ما اتخذوه من أصنام آلهة عبدوها دون الله تعالى .
وقوله تعالى : { من ورائهم جهنم } هذا وعيد لهم تابع للأول إذا أخبر تعالى أن من ورائهم جهنم ، وذلك يوم القيامة . ولفظ الوراء يطلق ويراد به الأمام فهو من الألفاظ المشتركة في معنيين فأكثر وقوله { ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا } أي ولا يكفي عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جاههم ولا كل ما كسبوا في هذه الدنيا أي لا يدفع ذلك عنهم شيئا من العذاب ، وكذلك لا تغني عنهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله شيئا من دفع العذاب . ولهم عذاب عظيم لا يقادر قدره ، وكيف والعظيم جل جلاله وصفه بأنه عظيم .
- لم يغن عن المشرك ما كان يعبد من دون الله أو مع الله من أصنام وأوثان وملائكة أو أنبياء أو أولياء .
وراءه-{[57937]} وكان كلما رأوا الإنسان في غاية التمكن منه ، قال مبيناً للعذاب : { جهنم } أي تأخذهم{[57938]} لا محالة وهم في غاية الغفلة عنها بترك الاحتراز منها ، ويحسن التعبير بالوراء{[57939]} أن الكلام في الأفاك ، وهو انصراف{[57940]} الأمور عن أوجهها{[57941]} إلى أقفائها{[57942]} فهو ماش أبداً إلى ورائه فهو ماش إلى النار بظهره{[57943]} ، ويستعمل ، " وراء " في الإمام ، فيكون حينئذ مجازاً عن{[57944]} الإحاطة أي تأخذهم من الجهة التي هم بها{[57945]} عالمون والجهة التي هم بها{[57946]} جاهلون ، فتلقاهم بغاية التجهم والعبوسة والغيظ والكراهة ضد ما كانوا عليه عند العلم-{[57947]} بالآيات المرئية والمسموعة من الاستهزاء الملازم للضحك والتمايل{[57948]} بطراً وأشراً ، ومثل ما كانوا عليه عند الملاقاة للمصدقين بتلك الآيات .
و-{[57949]} لما كانوا يظهرون الركون إلى ما بأيديهم من الأعراض الفانية ، قال : { ولا يغني عنهم } أي في دفع{[57950]} ذلك { ما كسبوا } أي حصلوا{[57951]} من الأمور التي أفادتهم العز الذي أورثهم الاستهزاء{[57952]} { شيئاً } أي من إغناء{[57953]} . ولما {[57954]}كان هؤلاء لما هم عليه من العمى{[57955]} يدعون إغناء آلهتهم{[57956]} عنهم ، قال{[57957]} مصرحاً بها : { ولا ما اتخذوا } أي كلفوا أنفسهم بأخذه مخالفين لما دعتهم إليها فطرهم الأولى السليمة من البعد عنها .
ولما كان كفرهم إنما هو الإشراك ، فكانوا يقولون " الله " أيضاً ، قال معبراً بما يفهم{[57958]} سفول ما سواه : { {[57959]}من دون الله{[57960]} } أي أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم { أولياء } أي يطمعون في أن يفعلوا معهم ما يفعله القريب من النفع والذب والدفع{[57961]} { ولهم }{[57962]} مع عذابهم{[57963]} بخيبة{[57964]} الأمل { عذاب عظيم * } لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً{[57965]} من أزمانهم ولا عضواً من أعضائهم إلا ملأه .