كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .
جاء في الدرّ المنثور للسيوطي :
أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله تعالى : كذلك العذاب . قال : عقوبة الدنيا ، ولعذاب الآخرة . قال : عقوبة الآخرة .
ما فعلنا بأصحاب الجنة نفعله بكل ما تعدّى حدودنا ، وعصى رسلنا ، كما فعلنا بعاد وثمود وفرعون ، وعذاب الآخرة أكبر وأشدّ وأخزى ، لو كانوا يعلمون . أي : لو كان الكفار من أهل العلم لأفاقوا من غفلتهم ، وأخذوا من العذاب حذرهم ، ولما وقعوا فيما وقعوا فيه .
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب :
كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .
وكذلك الابتلاء بالنعمة ، فليعلم المشركون أهل مكة :
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة . . .
ولينظروا ماذا وراء الابتلاء ، ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا :
قال تعالى مبينا{[1196]} ما وقع : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } [ أي : ] الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب الله العبد الشيء الذي طغى به وبغى ، وآثر الحياة الدنيا ، وأن يزيله عنه ، أحوج ما يكون إليه .
{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فإن من علم ذلك ، أوجب له الانزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب{[1197]}
قوله تعالى : " كذلك العذاب " أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال ، عن ابن زيد . وقيل : إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا " ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " وقال ابن عباس : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه ، وليرجعن{[15264]} إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر ، وتضرب القَيْنَات على رؤوسهم ، فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا . ثم قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم ، ويحتمل أنه كان تطوعا ، والأول أظهر ، والله أعلم . وقيل : السورة مكية ، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط ، وعلى قتال بدر .
ولكن لما كان المقام لترهيب{[67605]} من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله ولم يجلهم بجلاله طواه ، وذكر ما صور هذا الكلام وأنتجه من مساواة حال قريش وحال هؤلاء في الإحسان وطول الحلم مع احتقار أوليائه والتقوى عليهم بأفضاله ونعمائه ، فقال مرهباً : { كذلك } أي مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كانوا عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة {[67606]}به مع الاستحسان منهم{[67607]} لفعلهم{[67608]} والاستصواب وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب : { العذاب } الذي تحذرهم منه{[67609]} وتخوفهم به في الدنيا ، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت .
ولما كانوا منكرين لأمور الآخرة أشد من إنكارهم لأمور الدنيا أكد قوله : { ولعذاب الآخرة } أي الذي يكون فيها للعصاة والجبارين { أكبر } أي في كل ما يتوهمونه .
ولما كان هذا موجباً لمن له{[67610]} أدنى شعور للهروب منه قال : { لو كانوا } أي الكفار{[67611]} { يعلمون * } أي لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا {[67612]}عما هم{[67613]} فيه مما عرفوا أنه يغضب الله فيكون سبب العذاب في الدارين ، وهم مع ذلك مما يرزىء بهم {[67614]}عند الله و{[67615]}عند الناس من تلك الآثار الخبيثة التي منها{[67616]} الأيمان الكاذبة ، ويدل على عدم{[67617]} شجاعتهم وقلة{[67618]} عقولهم ، لكنهم ليس لهم نوع علم الآن ، والمختوم بموته على الكفر لا يتجدد له نوع علم ، وغيره سيرجع في الوقت الذي قدره الله له .