ويتسائل في استنكار : ( أفلا يتدبرون القرآن ) . . وتدبر القرآن يزيل الغشاوة ، ويفتح النوافذ ، ويسكب النور ، ويحرك المشاعر ، ويستجيش القلوب ، ويخلص الضمير . وينشيء حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير ، ( أم على قلوب أقفالها ? )فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور ? فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور !
يتدبرون القرآن : يتفهمونه ويتأملونه ما فيه من وصايا ونصائح .
أقفالها : مغاليقها التي لا تفتح .
24- { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } .
هلا تدبر هؤلاء المنافقون أو الكافرون القرآن ، وأمعنوا النظر والتأمل في هداياته وآدابه وتشريعاته ، وحلاله وحرامه ، وقصصه وأمثاله ، وما اشتمل عليه من عظات وعبر تفتح القلوب ، وتلين لها الأفئدة ، وتخشع لها الجبال الراسيات ، لكن هؤلاء لم يهتدوا ، فهم بين أمرين : إما أنهم لا يتأملون القرآن ولا يتدبرون ما فيه ، وإما أنهم يتدبرون ويقرأون القرآن ، لكن قلوبهم مغلقة ، كالبيوت التي وضعت الأقفال على أبوابها ، فلا يستطيع الإنسان دخولها .
وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار ، خصوصا المنافقين ، والآية توبيخ لهم ، وأمر بتدبر القرآن وتفهمه ، ونهى عن الإعراض عنه ، وقد وردت محققة لمعنى الآية المتقدمة ، فإنه تعالى قال : { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } . ( محمد : 23 ) .
لقد طردهم الله من رحمته بسبب نفاقهم ومرض قلوبهم وخيانتهم .
قال تعالى : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } . ( البقرة : 10 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتفكّرون في حُججه التي بيّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون. "أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا "يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه أنهم لو تدبّروا، وتأمّلوا فيه لأدركوا ما فيه، وفيه أيضا أنهم لو تدبّروا العذاب لفتح تلك الأقفال التي ذكر أنها عليها، وذهب بها، والله أعلم. وقوله تعالى: {أم على قلوبٍ أقفالها} أي عليها أقفالها. ثم يحتمل {أقفالها} الظلمة التي فيها، وهي ظلمة الكفر، تلك الظلمة تغطّي نور البصر ونور السمع. وجائز أن يكون ما ذكر من الأقفال، هو كناية عن الطبع، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال موبخا لهم "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "معناه أفلا يتدبرون القرآن بأن يتفكروا فيه ويعتبروا به، أم على قلوبهم قفل يمنعهم من ذلك، تنبيها لهم على أن الأمر بخلافه. وليس عليها ما يمنع من التدبر والتفكر، والتدبر في النظر في موجب الأمر وعاقبته، وعلى هذا دعاهم إلى تدبر القرآن.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي إن تدَّبروا القرآن أفضى بهم إلى العرفان، وأراحهم من ظلمة التحيرُّ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
التدبر: هو التفكر والنظر فيما يؤول إليه عاقبة الأمر..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها؟ قلت: أما التنكير ففيه وجهان: أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك. أو يراد على بعض القلوب: وهي قلوب المنافقين. وأما إضافة الأقفال؛ فلأنه يريد الأقفال المختصة بها، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح...
هم بين أمرين، إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه، لأن الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق، والقرآن منهما الصنف الأعلى بل النوع الأشرف، وأما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة، تقديره {أفلا يتدبرون القرآن} لكونهم ملعونين مبعودين، أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون...
{على قلوب} على التنكير ما الفائدة فيه؟... التنكير للقلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب، وذلك لأن القلب إذا كان عارفا كان معروفا لأن القلب خلق للمعرفة، فإذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف، وهذا كما يقول القائل في الإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان هذا سبع، ولذلك يقال هذا ليس بقلب هذا حجر...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وقال مقاتل: يعني الطبع على القلب. وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج، الذي قد ضرب عليه قفل. فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه. وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن. وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال بالإضافة إلى ضمير القلوب. فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة. ولو قال: أم على القلوب أقفالها. لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة. وفي قوله: {أقفالها} بالتعريف نوع تأكيد. فإنه لو قال: أقفال. لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الإسم. فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها، التي لا تكون لغيرها، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفلا يتدبرون} أي كل من له أهلية التدبر بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل- خير {القرآن} بأن يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس تفكر من ينظر في أدبار الأمور وماذا يلزم من عواقبها...ولما كان الاستفهام إنكارياً فكان معناه نفياً...
{أم على قلوب} من قلوب الغافلين لذلك، ونكرها لتبعيضها وتحقيرها بتعظيم قسوتها {أقفالها} أي الحقيقة بها الجديرة بأن تضاف إليها، فهي لذلك لا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً ولا تزداد إلا غباوة وعناداً، لأنها لا تقدر على التدبر...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والاستفهام في قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} للإنكار؛ والمعنى: أفلا يتفهمونه، فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم وعقل، وتزجره عن الكفر بالله، والإشراك به، والعمل بمعاصيه {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أم هي المنقطعة: أي بل على قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
... والخلاصة: إنهم بين أمرين كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار، والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أفلا يتدبرون القرآن).. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير. وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير، (أم على قلوب أقفالها؟) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين...
والمعنى: أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب. والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. وحرف {أم} للإضراب الانتقالي. والمعنى: بل على قلوبهم أقفال...
وتنكير {قلوب} للتنويع أو التبعيض، أي على نوع من القلوب أقفال. والمعنى: بل بعض القلوب عليها أقفال...
وإضافة (أقفال) إلى ضمير {قلوب} نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب، أي ملازمتها لها فدلّ على أنها قاسية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها)؟... «الأقفال» جمع قفل، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع، أو من القفيل، أي الأشياء اليابسة، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل، فكلّ من يأت يقفل راجعاً، وكذلك لمّا كان القفل شيئاً صلباً لا ينفذ فيه شيء، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة...
الثانية- قوله تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن " أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام . " أم على قلوب أقفالها " أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون . وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم . وفي حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها ] . وأصل القفل اليبس والصلابة . ويقال لما يبس من الشجر : القفل . والقفيل مثله . والقفيل أيضا نبت . والقفيل : الصوت . قال الراجز :
لما أتاك يابسا قِرْشَبَّا *** قمت إليه بالقفيل ضربا
كيف قَرَيْتَ شَيْخَك الأَزَبَّا{[13946]}
القِرْشَبُّ ( بكسر القاف ) المسن ، عن الأصمعي . وأقفله الصوم أي أيبسه ، قاله القشيري والجوهري . فالأقفال ها هنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان . أي لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر ، لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال : " على قلوب " لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة . والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها .
الثالثة- في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ من القطيعة . قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت : بلى . قال فذاك لك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقرؤوا إن شئتم " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ] . وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار . وقال قتادة وغيره : معنى الآية فلعلكم ، أو يخاف عليكم ، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء . قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن . فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان ، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى : " إنما المؤمنون إخوة " {[13947]} [ الحجرات : 10 ] . وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية ، والمراد من أضمر منهم نفاقا ، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك يوجب القتال . وبالجملة فالرحم على وجهين : عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين ، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم . وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب . وقال بعض أهل العلم : إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال . وقيل : بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث ، محرما كان أو غير محرم . فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم . وهذا ليس بصحيح ، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال ، قربة ودينية ، على ما ذكرناه أولا والله أعلم . قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبد الجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول : يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسيء إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة قاطع ) . قال ابن أبي عمر قال سفيان : يعني قاطع رحم . ورواه البخاري .
الرابعة- قوله عليه السلام : ( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم . . . ) " خلق " بمعنى اخترع وأصله التقدير ، كما تقدم{[13948]} . والخلق هنا بمعنى المخلوق . ومنه قوله تعالى : " هذا خلق الله " {[13949]} [ لقمان : 11 ] أي مخلوقه . ومعنى [ فرغ منهم ] كمل خلقهم . لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس فعله بمباشرة ولا مناولة ، ولا خلقه بآلة ولا محاولة ، تعالى عن ذلك . وقوله : [ قامت الرحم فقالت ] يحمل على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك ، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها ، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين . وثانيهما : أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للإعياء وشدة الاعتناء . فكأنه قال : لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام ، كما قال تعالى : " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " ثم قال " وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " {[13950]} [ الحشر : 21 ] . وقوله : ( فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ) مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم ، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره ، وأدخله في ذمته وخَفَارَتِه{[13951]} . وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض . ولذلك قال مخاطبا للرحم : ( أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . وهذا كما قال عليه السلام : [ ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه ] .
ولما أخبر بذلك فكان ربما سأل من لا يعي الكلام حق وعيه عن السبب الموجب للعن المسبب للصم{[59750]} والعمى ، أجابه{[59751]} بقوله منكراً موبخاً مظهراً لتاء التفعل إشارة إلى أن المأمور به صرف جميع الهمة إلى التأمل : { أفلا يتدبرون } أي كل من له أهلية التدبر بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل-{[59752]} خير { القرآن } بأن يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس تفكر من ينظر في أدبار الأمور وماذا يلزم من عواقبها ليعلموا أنه لا عون{[59753]} على الإصلاح في الأرض وصلة الأرحام والإخلاص لله في لزوم كل طاعة والبراءة من كل معصية مثل الأمر بالمعروف من الجهاد بالسيف وما دونه ، وربما دل إظهار التاء على أن ذلك من أظهر ما في القرآن من المعاني ، فلا يحتاج في العثور عليه إلى كبير تدبر- والله أعلم .
ولما كان الاستفهام إنكارياً فكان معناه نفياً ، فهو لكونه{[59754]} داخلاً على النفي نفي له فصار إثباتاً ، فكان كأنه قيل : هل يجددون التدبر تجديداً مستمراً لترق قلوبهم به وتنير بصائرهم له ، فيكفوا عن الإفساد والتقطيع ، عادله بقوله مشبهاً للقلوب بالصناديق دالاً على ذلك التشبيه بذكر ما هو مختص بالصناديق من الأقفال : { أم على قلوب } من قلوب الغافلين لذلك ، ونكرها لتبعيضها وتحقيرها بتعظيم قسوتها { أقفالها * } أي الحقيقة{[59755]} بها الجديرة بأن تضاف إليها ، فهي لذلك لا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً ولا تزداد إلا غباوة وعناداً ، لأنها لا تقدر على التدبر ، قال القشيري : فلا تدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، فلا يحصل لهم فهم الخطاب ، والباب إذا كان مقفلاً فكما لا يدخل فيه شيء فلا يخرج ما فيه ، فلا كفرهم يخرج ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل - انتهى . والإضافة تشعر بأن بعض-{[59756]} المتولين على قلوبهم أقفال ، لكن ليست متمكنة فيها ، فهو سبحانه يفتحها بالتوبة عليهم {[59757]}إذا أراد{[59758]} ، وأما الأولون فلا صلاحية لهم ، وفي هذه الآية أعظم حاث على قبول{[59759]} أوامر الله لا سيما الجهاد {[59760]}في سبيله{[59761]} وأشد زاجر عن الإعراض عنه لأن حاصلها أنه لعن من أعرض عنه لكونه لا يتدبر القرآن مع وضوحه ويسره ليعلم فوائد الجهاد الداعية إليه المحببة{[59762]} فيه ، فكان كأن-{[59763]} قلبه مقفل ، والآية من الاحتباك : ذكر التدبر أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والأقفال ثانياً دليلاً على ضدها أولاً ، وسره أنه ذكر نتيجة الخير الكافلة بالسعادة أولاً وسبب الشر الجامع للشقاوة ثانياً .
قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها 24 إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم 25 ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم 26 فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم 27 ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } .
يأمر الله عباده أن يتدبروا القرآن فيفهموا ما فيه من الآيات والأحكام والدلائل ، محذرا عاقبة الإعراض عن هذا الكتاب الحكيم ، فإنه لا يعرض عن تدبر آيات الله إلا من ران على قلبه الضلال والغشاوة والعمى ، وسول له الشيطان الجحود والعصيان . فقال سبحانه : { أفلا يتدبرون القرآن } الاستفهام للإنكار . والمعنى : أفلا يتفهمون القرآن فيعلموا ما فيه من المواعظ والأدلة والبراهين ، فيستيقنوا أنه الحق من ربهم . { أم على قلوب أقفالها } الأقفال ، جمع قفل ، بالضم ثم السكون . أقفل الباب وقفّل الأبواب تقفيلا . مثل أغلق وغلّق{[4240]} . والمعنى : بل على قلوبهم أقفالها فهم لا يفهمون ولا يتدبرون ما أنزل الله في كتابه من الآيات والعبر ، فهم بذلك لا يفضي الإيمان إلى قلوبهم بما عليها من الختم والإقفال .