( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله . ثم لم يرتابوا . وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله . أولئك هم الصادقون ) .
فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله . التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب . التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب ، ولا تهجس فيه الهواجس ، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور . والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله . فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب . في واقع الحياة . في دنيا الناس . يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة . ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله . لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة . ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس . فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن . يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني ، وواقعه العملي . وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف . فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله ، حتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية .
( أولئك هم الصادقون ) . . الصادقون في عقيدتهم . الصادقون حين يقولون : إنهم مؤمنون . فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب ، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة ، فالإيمان لا يتحقق . والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون .
ونقف قليلا أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - ثم لم يرتابوا - ) . . إنه ليس مجرد عبارة . إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية . وعلاج لحالة تقوم في النفس . حتى بعد إيمانها . . ( ثم لم يرتابوا )وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى . . ( إن الذين قالوا ربنا الله . . ثم استقاموا . . )فعدم الارتياب . والاستقامة على قولة : ربنا الله . تشير إلى ما قد يعتور النفس المؤمنة - تحت تأثير التجارب القاسية ، والابتلاءات الشديدة - من ارتياب ومن اضطراب . وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل ، ونوازل تزعزع . والتي تثبت فلا تضطرب ، وتثق فلا ترتاب ، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله .
والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق ، وأخطار الرحلة ، لتعزم أمرها ، وتحتسب ، وتستقيم ، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق ، ويظلم الجو ، وتناوحها العواصف والرياح !
15- { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } .
تلك صفات المؤمنين الصادقين ، وهي :
( أ ) الإيمان الصادق ، واليقين الجازم بالله تعالى ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا .
( ب ) عدم الشك والارتياب في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصحة هذا الدين .
( ج ) المشاركة العملية مع المسلمين في جهادهم ، والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله .
ونلاحظ أنه قدم المال على النفس ، لأن هؤلاء قدموا راغبين في المال ، أو لأن كثيرا من الناس يكون المال أكثر همهم .
فمن جمع هذه الصفات من الإيمان واليقين والسلوك العملي في الجهاد بالمال والنفس ، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم ، وإنه لوسام عظيم لهؤلاء المؤمنين الصادقين ، وفي الآية تعريض بالأعراب وأنهم لم يصدقوا في إيمانهم .
ثم بين الله تعالى حقيقة الإيمان بقوله :
{ إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون } .
المؤمنون حقاً هم الذين صدّقوا ولا تشوبهم الريبة في عقائدهم ، ويبذلون النفسَ والنفيس لإحقاقِ الحق وإزهاق الباطل ، أولئك هم الصادقون .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : على الحقيقة { الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهُم في سبيل الله } أي : من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله ، فإن من جاهد الكفار ، دل ذلك ، على الإيمان التام في القلب ، لأن من جاهد غيره على الإسلام ، والقيام بشرائعه ، فجهاده لنفسه على ذلك ، من باب أولى وأحرى ؛ ولأن من لم يقو على الجهاد ، فإن ذلك ، دليل على ضعف إيمانه ، وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب ، وهو الشك ، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني ، بما أمر الله بالإيمان به ، الذي لا يعتريه شك ، بوجه من الوجوه .
وقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي : الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة ، فإن الصدق ، دعوى كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان ، وأعظم ذلك ، دعوى الإيمان ، الذي هو مدار السعادة ، والفوز الأبدي ، والفلاح السرمدي ، فمن ادعاه ، وقام بواجباته ، ولوازمه ، فهو الصادق المؤمن حقًا ، ومن لم يكن كذلك ، علم أنه ليس بصادق في دعواه ، وليس لدعواه فائدة ، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى .
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }
{ إنما المؤمنون } أي الصادقون في إيمانهم كما صرح به بعد { الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } لم يشكوا الإيمان { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } فجهادهم يظهر بصدق إيمانهم { أولئك هم الصادقون } في إيمانهم ، لا من قالوا آمنا ولم يوجد منهم غير الإسلام .