عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها ، في كيان الكون ، وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت ، وما تزودت به لهذا اليوم ، وما حملت معها للعرض ، وما أحضرت للحساب :
كل نفس تعلم ، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها . . تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها . . تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئا مما أحضرت ، ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه . . تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها ، معهود في حياتها أو تصورها . وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء ، ولم يبقى إلا وجه الله الكريم ، الذي لا يتحول ولا يتبدل . . فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم ، فتجده - سبحانه - عندما يتحول الكون كله ويتبدل !
وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب .
وهذه الجملة جواب لكل ما تقدم من أول السورة ، أي : إذا انتهى ضوء الشمس والنجوم ، وسيرت الجبال من أماكنها ، وعطلت العشار ، وحشرت الوحوش ، وصارت البحار نار الله الكبرى ، واقترن الأخيار بالأخيار والفجار بالفجار ، وسئلت المقتولة ظلما بأي ذنب قتلت ، وإذا تطايرت صحف الأعمال ، وإذا أزيل الغطاء الذي فوقنا فلم تبق فوقنا سماء ، بل لم يبق فوق ولا تحت ، وإذا توقّدت النار واشتد لهيبها ، وإذا قرّبت الجنة من أهلها ، عند حدوث هذه الأشياء السابقة ستجد كل نفس عملها حاضرا مشاهدا ، وستجد الثواب والعقاب موضحا لهذا العمل .
والمراد : اعلموا وأخلصوا في دنياكم ، فستجدون ذلك أمامكم يوم القيامة .
قال تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذّركم الله نفسه والله رءوف بالعباد . ( آل عمران : 30 ) .
ما أحضرت : ما قدمته من خير أو شرّ .
عند ذلك تعلم كلُّ نفس ما قدّمت من أعمال ، فيذهب أهلُ النار إلى جهنم والمؤمنون إلى الجنةِ عند ربهم ، { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] .
والذي يجب علينا أن تعتقدَه أن أعمال العباد تظهر لهم ثابتةً مبيَّنة
لا يرتابون فيها يومَ القيامة . وبعد أن اخترع الإنسان الكمبيوتر والآلات الحاسبة لم يعدْ هناك شيء مستغرَب في نشر الصحف يوم القيامة ، وفيها حسابُ كل إنسان على أدقِّ وجه { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي : كل نفس ، لإتيانها في سياق الشرط .
{ مَا أَحْضَرَتْ } أي : ما حضر لديها من الأعمال [ التي قدمتها ] كما قال تعالى : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } وهذه الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة ، من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب ، وتشتد من أجلها الكروب ، وترتعد الفرائص وتعم المخاوف ، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم ، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم ، ولهذا قال بعض السلف : من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين ، فليتدبر سورة { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }
ولما كانت هذه الأشياء لهولها موجبة لاجتماع الهم وصرف الفكر عما يشغله من زينة أو لهو أو لعب أو سهو ، فكان موجباً للعلم بما يرجى نعيماً أو يوجب جحيماً ، وكان ذلك موجباً-{[71880]} لتشوف السامع إلى ما يكون ، قال تعالى كاشفاً تلك النعمة بالعامل في " إذا " وما عطف عليها : { علمت نفس } أي كل واحدة من النفوس ، فالتنكير فيه مثله في " ثمرة{[71881]} خير من جرادة " ودلالة هذا السياق المهول على ذلك يوجب اليقين فيه { ما } أي كل شيء { أحضرت * } أي-{[71882]} عملت{[71883]} وأوجدت ، فكان أهلاً للحضور ، وكان عمله لها سبباً لإحضار القدير إياه لها في ذلك اليوم محفوظاً لم يغب عنه منها ذرة من خيره وشره ، فلأجل{[71884]} ذلك كان لكل امرىء شأن يعنيه ، فإنه لا بد أن يكون في أعماله ما لا-{[71885]} يرضيه وما يستصغره عن حضرة العلي الكبير ، فمن اعتقد ذلك رغب في أن لا يحضر إلا ما يسره ، ورهب في إحضار ما يسوءه فيضره ، وجميع هذه الأشياء الاثني عشر المعدودة المذكورة في حيز " إذا " في الآخرة بعد النفخة الثانية على ما تقدم في الحاقة أنه الظاهر ، وأنه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، لأن التهويل بعد القيام أنسب ، وأدخل في-{[71886]} الحكمة وأغرب .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما قال سبحانه
{ فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه }[ عبس : 33 - 34 ] الآيات إلى آخر السورة ، كان مظنة لاستفهام السائل عن الوقوع ومتى يكون ؟ فقال{[71887]} تعالى :
{ إذا الشمس كورت }[ التكوير : 1 ] ووقوع تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار كل ذلك متقدم على فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه - إلى ما ذكر إلى آخر السورة لاتصال ما ذكر في مطلع سورة التكوير بقيام الساعة ، فيصح أن يكون أمارة للأول وعلماً عليه -{[71888]} انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.