إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّآ أَحۡضَرَتۡ} (14)

وقولُه تعالَى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ } جوابُ إذَا على أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ ممتدٌّ يسعَ ما في سباقها وسباقِ ما عُطفَ عليها من الخصالِ ، مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ لكنْ لا بمعْنى أنها تعلمُ ما تعلُم في كلِّ جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ الوقتِ المديدِ ، أو عند وقوعِ داهيةٍ من تلكَ الدواهِي بلْ عند نشرِ الصحفِ إلا أنَّه لما كانَ بعضُ تلك الدَّواهِي من مباديهِ وبعضُها من روادفِه نُسبَ علمُها بذلكَ إلى زمانِ وقوعِ كُلِّها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال ، والمرادُ بمَا أَحضرتْ أعمالُها من الخيرِ والشرِّ وبحضورِها إما حضورُ صحائِفها كما يعربُ عنه نشرُها وإما حضورُ أنفسِها على ما قالُوا من أنَّ الأعمالَ الظاهرة في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرزُ في النشأة الآخرةِ بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسنِ والقُبحِ على كيفياتٍ مخصوصةٍ وهيئاتٍ مُعينةٍ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسمُ هنالكَ وتتصورُ بصورةِ النَّارِ . وعَلى ذلكَ حُملَ قولُه تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } [ سورة التوبة ، الآية 49 . وسورة العنكبوت ، الآية 54 ] وقولُه تعالَى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ سورة النساء ، الآية 10 ] وكذا قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حقِّ من يشربُ من آنيةِ الذهبِ والفضَّةِ «إنما يُجرجرُ في بطنِه نارَ جهنمَ » ولا بُعدَ في ذلكَ ، ألا يرى أن العلمَ يظهرُ في عالمِ المثالِ على صُورةِ اللبنِ كما لا يَخْفى على مَنْ له خبرةٌ بأحوالِ الحضرات الخمس وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحةِ على صورٍ حسنةٍ وبالأعمال السيئةِ على صورٍ قبيحةٍ فتوضعُ في الميزان وأيَّاً ما كانَ فإسنادُ إحضارِها إلى النفسِ مَعَ أنَّها تحضرُ بأمرِ الله تعالى كما ينطقُ به قولُه تعالى :

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } [ سورة آل عمران ، الآية 30 ] الآيةَ لأنَّها لمَّا عمِلَتها في الدُّنيا فكأنَّها أحضرتْهَا في الموقفِ ومَعْنى علمِها بها حينئذٍ أنها تُشاهدُها على ما هيَ عليه في الحقيقة فإنْ كانتْ صالحةً تشاهدُها على صور أحسنَ ممَّا كانتْ تشاهدها عليه في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وإن كانت سيئةً تشاهدُها على خلاف ما كانتْ تشاهدُها عليه ههُنا لأنها كانتْ مزينةً لها موافقةً لهواهَا . وتنكيرُ النفسِ المفيدُ لثبوتِ العلمِ المذكورِ لفردٍ من النفوسِ أو لبعضِ منها للإيذانِ بأن ثبوتَهُ لجميعِ أفرادِها قاطبةً من الظهورِ والوضوحِ بحيثُ لا يكادُ يحومُ حولَهُ شائبةُ اشتباهٍ قطعاً يعرفُه كلُّ أحدٍ ولَو جيءَ بعبارةٍ تدلُّ على خلافِه وللرمزِ إلى أنَّ تلكَ النفوسَ العالمةَ بما ذُكِرَ مع توفرِ أفرادِها وتكثرِ أعدادِها مما يُستقلُّ بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ الذي أشير إلى بعض بدائعِ شؤونِه المنبئةِ عن عظمِ سُلطانِه ، وأما مَا قيلَ منْ أنَّ هذَا من قبيلِ عكسِ كلامِهم الذي يقصدونَ به الإفراطَ فيما يُعكسُ عنْهُ وتمثيله بقولِه تعالى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } وبقول منْ قالَ : [ البسيط ]

قَدْ أتركَ القَرْنَ مُصفرَّاً أناملُهُ *** [ كأن أثوابه مُجّت بفرصاد ]{[825]}

وبقولِ من قالَ حينَ سُئلَ عن عددِ فرسانِه : رُبّ فارسٍ عندِي ، وعندُه المقانبُ{[826]} ، قاصداً بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانِه وإظهارَ براءتِه من التزيد وأنَّه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً أنْ يتزيدَ فمن لوائحِ النظرِ الجليلِ إلا أنَّ الكلامَ المعكوسَ عنْهُ فيما ذُكِرَ من الأمثلةِ مما يقبلُ الإفراطَ والتماديَ فيه فإنَّه في الأولِ كثيراً ما يودُّ وفي الثانِي كثيراً ما أتركُ وفي الثالث كثيرٌ من الفرسانِ وكلُّ واحدٍ من ذلكَ قابلٌ للإفراطِ والمبالغةِ فيهِ لعدمِ انحصارِ مراتبِ الكثرةِ وقدْ قُصدَ بعكسِه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فُصِّل أما فيما نحن فيه فالكلام الذي عكس عنْهُ عملتْ كلُّ نفسٍ ما أحضرتْ كما صرَّحَ به القائلُ وليسَ فيه إمكانُ التكثيرِ حتَّى يُقصدَ بعكسِه المبالغةُ والتَّمادِي فيهِ وإنما الذي يمكنُ فيه من المبالغةِ ما ذكرناهُ فتأمل . ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للإشعارِ بأنَّه إذا علمتْ حينئذٍ نفسٌ من النفوسِ ما أحضرتْ وجبَ على كلِّ نفسٍ إصلاحُ عملِها مخافةَ أنْ تكونَ هيَ تلكَ التي علمتْ ما أحضرتْ فكيفَ وكلُّ نفسٍ تعلمُه على طريقةِ قولِك لمن تنصحُه لعلكَ ستندمُ على ما فعلتَ ورُبَّما ندمَ بالإنسانُ على ما فعلَ فإنك لا تقصدُ بذلكَ أنَّ ندمَهُ مرجوُّ الوجودِ لا متيقنٌ بهِ أو نادرُ الوقوعِ بلْ تريدُ أنَّ العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ يجتنبَ أمراً يُرجى فيهِ الندمُ أو قلَّماً يقعُ فيهِ فكيفَ بهِ إذَا كانَ قطعَي الوجودِ كثيرَ الوقوعِ .


[825]:وهو لعبيد بن الأبرص في ديوانه (ص64)؛ وخزانة الأدب (11/253، 257، 260) وشرح أبيات سيبويه (2/368) ولعبيد بن الأبرص أو للهذلي في الدرر (5/128) وشرح شواهد المغني (ص494) وللهذلي بدون تحديد في الأزهية (ص212) ولسان العرب (قدد) وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص 76) ولسان العرب (أسن).
[826]:المقنب من الخيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين وقيل زهاء ثلاثمائة، الجماعة من الفرسان.