الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّآ أَحۡضَرَتۡ} (14)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

علمت ما عملت فاستيقنت من خير أو شر تجزى به، كل هذا يوم القيامة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

علمت نفس عند ذلك ما أَحضرت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شرّ فتصير به إلى النار. يقول: يتبين له عند ذلك ما كان جاهلاً به، وما الذي كان فيه صلاحه من غيره... وقوله:"عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ "جواب لقوله: إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ وما بعدها...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والمعنى: إن عند ظهور الأشياء التي ذكرها وعددها، تعلم كل نفس ما عملته من طاعة أو معصية، وقد كان غافلا عنه. وهو كقوله (أحصاه الله ونسوه)...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {نفس} هنا اسم جنس، أي عملت النفوس ووقع الإفراد لتنبيه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ولما ذكر الله تعالى هذه الأمور الاثني عشر، ذكر الجزاء المرتب على الشروط الذي هو مجموع هذه الأشياء، فقال: {علمت نفس ما أحضرت}. ومن المعلوم أن العمل لا يمكن إحضاره، فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، وما أحضرته عند المحاسبة، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال، والمراد: ما أحضرت من استحقاق الجنة والنار...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{علمت نفس} أي كل واحدة من النفوس... هذا السياق المهول على ذلك يوجب اليقين فيه {ما} أي كل شيء {أحضرت} أي- عملت وأوجدت، فكان أهلاً للحضور، وكان عمله لها سبباً لإحضار القدير إياه لها في ذلك اليوم محفوظاً لم يغب عنه منها ذرة من خيره وشره، فلأجل ذلك كان لكل امرئ شأن يغنيه، فإنه لا بد أن يكون في أعماله ما لا- يرضيه وما يستصغره عن حضرة العلي الكبير، فمن اعتقد ذلك رغب في أن لا يحضر إلا ما يسره، ورهب في إحضار ما يسوءه فيضره...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها، في كيان الكون، وفي أحوال الأحياء والأشياء. عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت، وما تزودت به لهذا اليوم، وما حملت معها للعرض، وما أحضرت للحساب... كل نفس تعلم، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وجملة: {علمت نفس ما أحضرت} يتنازع التعلق به كلمات {إذا} المتكررة...

والإحضار: جعل الشيء حاضراً. ومعنى: {علمتْ نفس ما أحضرت} حصول اليقين بما لم يكن لها به علم من حقائق الأعمال التي كان علمها بها أشتاتاً: بَعْضه معلوم على غير وجهه، وبعضه معلوم صورتُه مجهولةٌ عواقبه، وبعضه مغفول عنه...

وتذكُّر المنسي والمغفول عنه نوع من العلم. وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال. ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ، عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشبه به، كما يحضر الزاد للمسافر، ففي فعل: {أحضرت} استعارة. ويطلق على ذلك الإعداد...

وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ، فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سَبب فعله...

الشعراوي – 1419هـ:

تنتقل السورة بعد ذلك إلى الغرض الثاني، وذلك بعد تضخيم الغاية بهذا التضخيم والتخويف، ذلك الغرض هو أن لا تغتروا بثبات هذا الوجود أمامكم، ولا برتابة هذه الموجودات، فسوف يأتي عليها يوم لا تكون شيئاً، وسيحدث ثورة في الكون، وانقلاب في الوجود، وفي كل شيء ألفتموه.

فبذلك يكون قد ضخم لنا تلك الغاية، ونبهنا إلى أن نستعد لهذه الغاية بالوسيلة المناسبة.

فما هي تلك الوسيلة؟!

إنها منهج الله عز وجل.

وهذا المنهج العظيم.. كيف وصل إلينا؟!

لقد وصل إلينا عن طريف الوحي.

وما هي مراحل ذلك الوحي ودرجاته؟!

إنها عبارة عن مصطفى من الملائكة يأخذ من الله ليعطي مصطفى من البشر، وهذا المصطفى من البشر يبلغنا بمراد الله عز وجل منا، إذن فكان ولابد أن يعالج الأمر بتلك الصورة.

هذه هي القضية باختصار..

فإذا أردنا أن نتكلم عن تلك الوسيلة بشيء من التفصيل فنقول: الوسيلة: هي أن يتبع الإنسان منهج الله، ومنهج الله لا يمكن للعقل أن يبتكره، فقصارى ما يفهمه العقل من قضية العقيدة هو أن يؤمن بوجود قوة عليا وراء ذلك الكون، أما اسم تلك القوة فالعقل لا يعرفها، وكذلك مطلوبات هذه القوة لا يعرفها العقل، والغاية التي تنشأ من مخالفتها كذلك لا يعرفها، والغاية التي تنشأ من طاعتها لا يعرفها العقل أيضاً.

فمنتهى قدرات العقل هي أن يؤمن إيمان القمة بوجود قوة وراء ذلك الكون، وهذه القوة هي التي تعبر عن نفسها، فتقول: اسمي كذا، ومطلوبي كذا، ومن أطاعني فله كذا، ومن عصاني فعليه كذا، فلابد إذاً أن يوجد تبليغ.

فحتى ينجح المنهج أو الوسيلة في تلك الغاية فلابد أن يكون صادراً عن الحق سبحانه وتعالى، فنجد أن الحق سبحانه وتعالى يوثق لنا المنهج الذي ينظم حركة حياتنا.

فإن كنت قد آمنت بوجود الله عز وجل، وبأن الله سبحانه وتعالى هو الذي صنعك وخلقك، وهو الذي سيضع لك قانون صيانتك؛ لتكون صائراً إلى غاية تحبها وتحمدها، فلابد من أن تأخذ ذلك المنهج من الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر مفروغ منه، فهذا المنهج لابد من أن يكون من الله سبحانه وتعالى.

إذاً فما هي الآفات التي قد تطرأ على هذا المنهج؟!..

من أخطر ما يطرأ من آفات على ذلك المنهج هو أن يقنن الخلق للخلق، فالخلق جميعاً متساوون في كل شيء، فما الذي يجعل واحداً من الخلق أهلاً لأن يقنن لبقية الخلق؟!

فالذي يقنن لحركة شيء يجب أن تتوافر فيه خصال، وهي: أن يكون عالماً بها، وأن يكون حكيماً، وأن يكون لا هوى له ولا منفعة فيما يقنن، وإلا فإن أي إنسان من البشر إذا قنّن فلابد أن يكون له هوى في نفسه يسبق تقنيناته بما يجعلها مجنحة إلى صالحه، وهذا أمر لا يتأتى في الحق سبحانه وتعالى.

فكيف وصل إلينا إذاً هذا المنهج من الحق سبحانه وتعالى؟!..

إن الحق سبحانه وتعالى لن يخاطب كل فرد خطاباً مفرداً خاصّاً به؛ لذلك فإن الخبر يجب أن يأتينا منه بواسطة، هذه الواسطة هي التي تقوم بعمليات التوالي التي تعطي من الأقوى إلى القوي إلى الأقل قوة، فوسائل المنهج من الله هي رسول مصطفى من البشر، يتلقى عن رسول مصطفى من الملائكة، كما قال عز وجل: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس (75)} [الحج]. أي: قمة مصطفاه من البشر تتلقى عن قمة مصفاة من الملائكة، وهذه القمة المصطفاة من الملائكة تتلقى عن الحق سبحانه وتعالى.

فالحق يريد أن يقول: إن المنهج الذي يحقق لك الغاية التي تقدمت في أول السورة، وسبق الكلام عنها لا يتأتى إلا بذلك المنهج، من المنهج تطمئن إلى منهج دينك، وتطمئن إلى منهج إسلامك؛ لأن مبلغه مصطفى من الملائكة وصفته كذا وكذا، إلى مصطفى من البشر وصفته كذا وكذا، وهذا المصطفى من البشر نعرفه، ونعرف طفولته، ونعرف طباعه وصفاته، ونعرف حياته كلها؛ فلذلك لم يطنب الحق سبحانه وتعالى في بيان صفته صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى: {وما صاحبكم بمجنون (22)} [التكوير]. وكلمة: «صاحبكم» أي: من تعرفونه جيداً من قبل أن يؤدي هذا المنهج إليكم، عرفتموه أميناً، عرفتموه حكيماً، عرفتموه عاقلاً، أي: لم آت إليكم برسول من جهة أخرى بعيدة عنكم، بل هو منكم؛ وهذا هو معنى قول الحق سبحانه وتعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ (128)} [التوبة].

ولكن جبريل عليه السلام المصطفى من الملائكة غائب عنا؛ فلذلك أطنب الحق سبحانه وتعالى في وصف ذلك المصطفى من الملائكة.

فإن آفة المناهج التي سبقت الإسلام أنها فسدت بالتناولات، فسدت من جهة المبلغين عن هؤلاء الرسل المصطفين من الله عز وجل، فحرّفوا، ولووا ألسنتهم، وكتموا، وزادوا، وفعلوا كل شيء، فالله عز وجل يريد أن يبين أن منهج الإسلام مخالف لكل هذه المناهج قبلنا، فهو منهج موثق تمام التوثيق، فصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم أنتم تعرفونه جيداً، وخبرتموه:

لقبتموه أمين القوم في صغر وما الأمين على قول بمتّهم

خاصة وأنكم حتى بعد ما أخبركم بهذه الرسالة، وكان بعضكم لا يزال كافراً، فكان لا يأتمن على ودائعه النفيسة إلا هذا الرجل صلى الله عليه وسلم، أليست هذه شهادة منكم لأمانته؟!

وأما الذي لا تعرفونه وهو جبريل عليه السلام فوقّر بحيثيات، هذا هو الغرض، فالغرض هو الوسيلة للغاية، والوسيلة للغاية إنما هو المنهج، والمنهج يحتاج إلى نقل، والنقل يحتاج إلى مصطفى من البشر، ومصطفى من الملائكة.

فتكلم الحق سبحانه وتعالى عن هذا الغرض في القسم الثاني من السورة، وعالجه بأسلوب القسم، فعالج الغرض الأول بأسلوب الشرط والجواب، وهذا عالجه بأسلوب القسم؛ لأن القسم هو غاية البرهان.

فيقول الحق سبحانه وتعالى: {فلا أقسم بالخنّس (15) الجوار الكنّس (16) والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفّس (18)} [التكوير]. على أي شيء يقسم؟! {إنّه لقول رسولٍ كريم (19) ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين (20) مطاعٍ ثم أمين (21)} [التكوير]. وهذا هو ما يتعلق بالمصطفى من الملائكة، وهو جبريل عليه السلام، ذلك الغائب عنا، ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وما صاحبكم بمجنون (22)} [التكوير]. ثم يثبت الالتقاء بين المصطفى من البشر وبين المصطفى من الملائكة، فيقول: {ولقد رآه بالأفق المبين (23)} [التكوير]. ثم يسد عليهم جميع الأبواب: {وما هو على الغيب بضنين (24) وما هو بقول شيطانٍ رجيم (25)} [التكوير]. كل المنافذ مغلّقة عليكم.. {فأين تذهبون (26)} [التكوير]. فلا مذهب إلا أن نلتقي بذلك المنهج، بواسطة ذلك الرسول.