وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب ، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه . يجيء لتقرير الإحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره ، وهو صدق الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه . بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا . كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ :
( ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) . .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه ، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر ، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالا فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات !
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع !
تقوّل علينا : افترى واختلق وادّعى علينا .
باليمين : بيمينه ، أو بالقوة والقدرة .
الوتين : نياط القلب ، أو نخاع الظهر .
عنه حاجزين : مانعين الهلاك عنه .
44 ، 45 ، 46 ، 47- ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحد عنه حاجزين .
ولو ادّعى محمد علينا بعض الادعاء ، أو نسب إلينا شيئا لم نقله ، لعاقبناه عقوبة عاجلة ، شبيهة بغضب بعض الملوك على من يكذب عليه ، حيث يمسك السياف بيمين الجاني ثم يكفحه بالسيف ، ويضرب عنقه فيقطع منه الوتين ، وهو عرق متصل بالقلب إذا قطع قضي على صاحبه ومات .
فما يستطيع أحد من الناس أن يحجزنا ، أو يحول بيننا وبينه في إهلاكه وقتله وقطع وتينه ، إذ ليس ذلك في قدرة أحد أو إمكانه .
ولمّا لم يحدث شيء من ذلك ، كان محمد رسولا من عند الله ، صادقا في أن وحي السماء ينزل عليه ، وفي أن القرآن تنزيل من رب العالمين .
{ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } وهو عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات {[1222]} منه الإنسان ، فلو قدر أن الرسول -حاشا وكلا- تقول على الله لعاجله بالعقوبة ، وأخذه أخذ عزيز مقتدر ، لأنه حكيم ، على كل شيء قدير ، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه ، الذي يزعم أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم ، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة ، ومن خالفه فله الهلاك .
فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات ، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات ، ونصره على أعدائه ، ومكنه من نواصيهم ، فهو أكبر شهادة منه على رسالته .
" ثم لقطعنا منه الوتين " يعني نياط القلب ، أي لأهلكناه . وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه ، قاله ابن عباس وأكثر الناس . قال :
إذا بَلَّغَتْنِي وحملت رحلي*** عَرَابَةُ فاشْرَقِي{[15325]} بدم الوَتِينِ
وقال مجاهد : هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع ، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه . والمَوْتُون الذي قطع وتينه . وقال محمد بن كعب : إنه القلب ومَرَاقّه وما يليه . قال الكلبي : إنه عرق بين العلباء والحلقوم . والعلباء : عصب العنق . وهما علباوان بينهما ينبت العرق . وقال عكرمة : إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عَرَف ، ولا إن شبع عَرَف .
ولما صور مبدأ الإهلاك بأفظع صورة ، أتمه مشيراً إلى شدة بشاعته بحرف التراخي فقال : { ثم لقطعنا } حتماً بلا مثنوية بما لنا{[68203]} من العظمة{[68204]} قطعاً يتلاشى عنده كل قطع { منه الوتين } أي العرق الأعظم في العنق الثابت الدائم المتين الذي يسمى الوريد ، وهو بين العلباء والحلقوم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه{[68205]} نياط القلب ، وفي القاموس : عرق في القلب إذا{[68206]} انقطع مات صاحبه - انتهى . واختير التعبير به لأن مادته بهذا الترتيب تدور على المتانة والدوام ، فلذا كان يفوت صاحبه بفواته ، وقال ابن برجان : عرق متصل بنياط القلب مستبطن للصلب يملأ الجسد كله تسقيه الكبد وهي{[68207]} بيت الدم وهو يجري منها الدم في البدن{[68208]} يأخذ منه{[68209]} ستون عرقاً هي أنهار الدم في الجسد كله ، من هذه الأنهار تأخذ عروق الجسد ثمانية عشر تسقي الصدر ، وسبعة تسقي العين ، وأربعة تسقي الدماغ ، والوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين ، ثم ينقسم عنه سائر العروق إلى سائر الجسد ، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه ، وفي المائدة عند قوله{[68210]}
{ والله يعصمك من الناس }[ المائدة : 67 ] ما ينفع هنا{[68211]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.