وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين . تعمل وحدها في خلقه وتنميته ، وبناء هيكله ، ونفخ الروح فيه . ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة ، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله . والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها ؛ كما لا يعرفون كيف تقع . بله أن يشاركوا فيها !
وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان . وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها . ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى ، إلى أن تصير خلقا ، قصة أغرب من الخيال . قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلا ، ويشهد وقوعها كل إنسان !
هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر ، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا . كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى ؛ لأنها مكلفة أن تنشيء جانبا خاصا من المخلوق البشري ! فهذه خلايا عظام . وهذه خلايا عضلات . وهذه خلايا جلد . وهذه خلايا أعصاب . . ثم . . هذه خلايا لعمل عين . وهذه خلايا لعمل لسان . وهذه خلايا لعمل إذن . وهذه خلايا لعمل غدد . . وهي أكثر تخصصا من المجموعات السابقة . . وكل منها تعرف مكان عملها ، فلا تخطئ خلايا العين مثلا ، فتطلع في البطن أو في القدم . مع أنها لو أخذت أخذا صناعيا فزرعت في البطن مثلا صنعت هنالك عينا ! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك ! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذنا هناك ! . . إنها كلها تعمل وتنشيء هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق ، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال .
تمنون : أمنى أي أراق ، والمراد هنا : وضع النطفة في الرحم .
58 ، 59- { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } .
أي : أخبروني عن المنيّ الذي تضعونه في أرحام النساء ، هل أنتم تخلقونه وتنقلونه من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة ثم إلى عظام ، وتكسون العظام لحما وتنفخون فيه الروح ، أم نحن الذين أبدعنا خلق الإنسان ، بعد مراحل يمرّ فيها الجنين في بطن أمه ؟
وإذا لم تخلقوا ولم توجدوا فاعترفوا بقدرتنا على البدء والإعادة .
" إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمنى رحم المرأة ، ثم ينقطع عمله وعملها ، وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها ، في هذا الماء المهين ، تعمل وحدها في خلقه وتنميته وبناء هيكله ونفخ الروح فيه " xiv
" أأنتم تخلقونه " أي تصورون منه الإنسان " أم نحن الخالقون " المقدرون المصورون . وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الأولى ، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث . وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي : " تمنون " بفتح التاء وهما لغتان أمنَى ومَنَى ، وأمذى ومذَى يُمْنِي ويَمْنِي ويُمْذي ويَمْذي . الماوردي : ويحتمل أن يختلف معناها عندي ، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام . وفي تسمية المني منيا وجهان : أحدهما لإمنائه وهو إراقته . الثاني لتقديره ، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك ، وكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة .
ولما كانت العبرة بالمسبب لا بالسبب ، نبه على ذلك بتجديد الإنكار تنبيهاً على أنهم وإن كانوا معترفين بتفرده بالإبداع ، فإن إنكارهم للبعث مستلزم لإنكارهم لذلك فقال : { ءأنتم تخلقونه } أي{[62164]} توجدونه مقدراً{[62165]} على ما هو عليه من الاستواء والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صور المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب { أم نحن } خاصة . ولما كان المقام لتقرير المنكرين ذكر{[62166]} الخبر المفهوم من السياق على وجه أفهم أن التقدير : أو أنتم الخالقون له أم نحن ؟ فقال : {[62167]}بل نحن{[62168]} { الخالقون * } أي الثابت لنا ذلك ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً { تخلقون } دليلاً على حذف مثله له سبحانه ثانياً ، وذكر الاسم ثانياً{[62169]} دليلاً على حذف مثله لهم أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر{[62170]} ما هو الأوفق لأعمالهم مما{[62171]} يدل على وقت التجدد ولو{[62172]} وقتاً ما ، وما هو الأولى بصفاته سبحانه مما يدل على الثبات والدوام .