ثم يقررون تصورهم لحقيقة الهدى والضلال ، والجزاء على الهدى والضلال :
( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون . فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) . .
والقاسطون : الجائرون المجانبون للعدل والصلاح . وقد جعلهم هذا النفر من الجن فريقا يقابل المسلمين . وفي هذا إيماءة لطيفة بليغة المدلول . فالمسلم عادل مصلح ، يقابله القاسط : الجائر المفسد . .
( فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ) . . والتعبير بلفظ( تحروا )يوحي بأن الاهتداء إلى الإسلام معناه الدقة في طلب الرشد والاهتداء - ضد الغي والضلال - ومعناه تحري الصواب واختياره عن معرفة وقصد بعد تبين ووضوح . وليس هو خبط عشواء ولا انسياقا بغير إدراك . ومعناه أنهم وصلوا فعلا إلى الصواب حين اختاروا الإسلام . . وهو معنى دقيق وجميل . .
القاسطون : الجائرون والمائلون عن طريق الحق .
تحروا رشدا : قصدوا طريق الحق والصواب .
14 ، 15- وأنّا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشدا* وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا .
الجن طائفة منها المسلم المؤمن المستقيم الذي رجّح جانب الخير على جانب الشر ، شأن مسلم الإنس ، ومنهم الجائر الظالم .
فأما المسلم فقد اختار الرشد ، وبحث وتحرّى عن عقيدته التي يدين بها ، فاختار الإسلام ، وأما الكافرون الظالمون فقد آثروا الضلال والعناد ، فمآلهم جهنم ، وسوف يكونون وقود النار وحطبها .
روى عن سعيد بن جبير رحمه الله : أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ ؟ فقال سعيد : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال ، فقال الحجاج : يا جهلة ، إنه سمّاني ظالما مشركا ، وتلا لهم قوله تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا . وقوله عز وجل : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . ( الأنعام : 1 ) .
قوله تعالى : " وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون " أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر . والقاسط : الجائر ، لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل ؛ لأنه عادل إلى الحق ، يقال : قسط : أي جار ، وأقسط : إذا عدل ، قال الشاعر :
قوم هم قتلوا ابنَ هند عُنْوَةً *** عَمْرًا وهم قَسَطُوا على النُّعْمَانِ
" فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا " أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تَحَرِّي القبلة
ولما كان هذا ظاهراً في أنهم أسلموا كلهم ، قالوا نافين لهذا الظاهر مؤكدين لأن إسلامهم مع{[69121]} {[69122]}شديد نفرتهم{[69123]} لا يكاد يصدق : { وأنا منا } أي أيها الجن { المسلمون } أي المخلصون في صفة الإسلام للهادي فأسلموه قيادهم فهم عريقون في ذلك مقسطون مستقيمون ، فلا يفارقون الدليل فهم على الصراط السوي العدل الرضي ، ومنا الجافون الكافرون { ومنا{[69124]} القاسطون } وهم الجائرون عن المنهج{[69125]} الأقوم الساقطون في المهامه{[69126]} المجاهل التي ليس بها{[69127]} معلم ، فهم بربهم كافرون ، ومنا المقسطون{[69128]} ، يقال : قسط - إذا جار جوراً ، أسقطه عن رتبة الإنسان إلى {[69129]}رتبة أدنى{[69130]} الحيوان ، وأقسط - إذا أزال الجور فعدل ، فالآية{[69131]} من الاحتباك : " المسلمون " يدل على الكافرين ، و " القاسطون " يدل على المقسطين .
ولما كانوا قد علموا مما{[69132]} سمعوا من القرآن أنه لا بد من البعث للجزاء ، سببوا عن هذه القسمة قولهم : { فمن أسلم } أي أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه للدليل من الجن ومن{[69133]} غيرهم .
ولما كان في مقام الترغيب في الحق ، ربط بفعلهم ذلك{[69134]} تسبيباً عنه قوله مدحاً لهم : { فأولئك } أي العالو الرتبة { تحروا } أي توخوا{[69135]} وقصدوا مجتهدين { رشداً * } أي صواباً عظيماً وسداداً ، {[69136]}كان - لما{[69137]} عندهم من النقائص - شارداً عنهم{[69138]} فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً ، من قولهم : الحرا - بالقصر : أفحوص القطاة يأوي إليه الظبي ، والناحية والموضع ، وما أحراه بكذا : ما أوجبه له ، وبالحرا أن يكون كذا أي خليق كونه ، وفلان حري بكذا أي خليق ، وقد يجيء بالحر - من غير ياء ، يراد به بالجهد ، وتحريت الشيء : قصدت ناحيته ، فكان لهم ذلك إلى الجنة سبباً ، ومن قسط فأولئك ضلوا فنالوا{[69139]} غياً وشططاً{[69140]} .
قوله : { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } وذلك إخبار آخر من الله عن قيل النفر من الجن وهو أنا منا المسلمون أي المستسلمون لله الخاضعون لأمره ، المذعنون له بالطاعة والإنابة { ومنا القاسطون } أي الجائرون . أو المائلون عن الحق ، الناكبون عن سواء السبيل . والقاسطون ، من القسوط ، وهو الجور والعدول عن الحق ، بخلاف القسط وهو العدل{[4658]} .
قوله : { فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشدا } فمن رام الهدى والصواب فأطاع الله واستسلم لأمره فأولئك قصدوا الطريق المستقيم .