ثم بين لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كيف يبايعهن على الإيمان ، هن وغيرهن ممن يردن الدخول في الإسلام . وعلى أي الأسس يبايعهن :
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادهن ، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصينك في معروف ، فبايعهن ، واستغفر لهن الله ، إن الله غفور رحيم . .
وهذه الأسس هي المقومات الكبرى للعقيدة ، كما أنها مقومات الحياة الاجتماعية الجديدة . .
إنها عدم الشرك بالله إطلاقا . . وعدم إتيان الحدود . . السرقة والزنا . . وعدم قتل الأولاد . . إشارة إلى ما كان يجري في الجاهلية من وأد البنات ، كما أنه يشمل قتل الأجنة لسبب من الأسباب . . وهن أمينات على ما في بطونهن . . ( ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ) . . قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن . وكذلك قال مقاتل . ولعل هذا التحفظ - بعد المبايعة على عدم الزنا - كان للحالات الواقعة في الجاهلية من أن تبيح المرأة نفسها لعدة رجال ، فإذا جاءت بولد ، نظرت أيهم أقرب به شبها فألحقته به ، وربما اختارت هي أحسنهم فألحقت به ابنها وهي تعلم من هو أبوه !
وعموم اللفظ يشمل هذه الحالة وغيرها من كل بهتان مزور يدعى . ولعل ابن عباس ومقاتل خصصاه بذلك المعنى لمناسبة واقعة وقتذاك
والشرط الأخير : ( ولا يعصينك في معروف ) . . وهو يشمل الوعد بطاعة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في كل ما يأمرهن به . وهو لا يأمر إلا بمعروف . ولكن هذا الشرط هو أحد قواعد الدستور في الإسلام ، وهو يقرر أن لا طاعة على الرعية لإمام أو حاكم إلا في المعروف الذي يتفق مع دين الله وشريعته . وأنها ليست طاعة مطلقة لولي الأمر في كل أمر ! وهي القاعدة التي تجعل قوة التشريع والأمر مستمدة من شريعة الله ، لا من إرادة إمام ولا من إرادة أمة إذا خالفت شريعة الله . فالإمام والأمة كلاهما محكوم بشريعة الله ، ومنها يستمدان السلطات !
فإذا بايعن على هذه الأسس الشاملة قبلت بيعتهن . واستغفر لهن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما سلف ( إن الله غفور رحيم ) . . يغفر ويرحم ويقيل العثرات .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 ) }
يبايعنك : يعاهدنك بالتزام الطاعة .
ولا يقتلن أولادهن : ولا يئدن البنات .
ببهتان : بزور وكذب بإلصاق اللقطاء بالأزواج .
فبايعهن واستغفر لهن الله : فالتزم لهنّ ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء .
12- { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
تشتمل الآية على مكارم الأخلاق التي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها النساء .
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات مبايعات لك ، ومعاهدات على هذه الأمور ، وهي :
{ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } . من صنم أو حجر .
{ وَلَا يَسْرِقْنَ } . من مال الناس شيئا .
{ وَلَا يَزْنِينَ } . وقد حذر القرآن من الزنا ، وبيّن أنه فاحشة وساء سبيلا .
{ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ } . ولا يئدن البنات ، كما كنّ يفعلن في الجاهلية ، أو لا يقتلن الأجنة في بطونهن ، فإنّ ذلك عدوان وقتل للنفس بغير حق .
{ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ . . . }
ولا يلحقن الأطفال الأجانب بأزواجهن كذبا وزورا ، أو : ولا يأتين بكذب وزور من قبل أنفسهن ، واليد والرجل كناية عن الذات ، لأن معظم الأفعال بهما .
قال المفسرون : كانت المرأة إذا خافت مفارقة زوجها لها لعدم الحمل ، التقطت ولدا ونسبته له ليبقيها عنده ، فالمراد بالآية اللقيط .
{ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ . . . }
ولا يخالفن أمرك فيما أمرتهنّ به من معروف ، أو نهيتهنّ عنه من منكر ، بل يسمعن ويطعن .
{ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ } .
فبايعهن يا رسول الله على ذلك ، واطلب لهنّ من الله الصفح والغفران ، لما سلف منهنّ من الذنوب .
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
أي : واسع المغفرة عظيم الرحمة .
كنت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح ، على جبل الصفا ، وبعدما فرغ من بيعة الرجال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر أسفل منه ، يبايعهنّ بأمره ، ويبلغهنّ عنه ، وما مست يده صلى الله عليه وسلم يد امرأة أجنبية قط .
وكانت هند بنت عتبة – وهي التي شقت بطن حمزة يوم أحد – متنكرة في النساء ، فلما قرأ النبي صلى لله عليه وسلم عليهن الآية ، قال : عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا . . . قالت هند : وكيف نطمع أن يُقبل منّا ما لم يقبل من الرجال ؟ تعني أن هذا بيّن لزومه ، فلما قال : ولا يسرقن . قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان – أي القليل وبعض الشيء من ماله – لأنه رجل شحيح ، ولا أدري أيحلّ لي ذلك أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فقال لها : " وإنك لهند بنت عُتبة " ؟ قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله ، عفا الله عنك ، فلما قرأ : ولا يزنين . قالت : أو تزني الحرة ؟ فلما قرأ : ولا يقتلن أولادهن . قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ، فأنت وهم أعلم وكان ابنها حنظلة قد قُتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما قرأ : { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } . قالت هند : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فلما قرأ : وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ . قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا ، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيءxvi .
2- بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال أيضا على بنود بيعة النساء .
روى البخاري ، عن عبادة بن الصامت قال : كنّا عند النبي صلى الله علي وسلم فقال : " أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا " ، قرأ آية النساء ( أي : آية بيعة النساء ) ، ثم قال : " فمن وفّى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله ، فهو إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " xvii
في مرحلة الإعداد للهجرة ، وتعرّض النبي صلى الله عليه وسلم للوفود ، قابل وفود المدينة المنوّرة ، وتمت بيعت العقبة الأولى والثانية ، وكان لهما أبعد الأثر في تهيئة المدينة المنورة لاستقبال الإسلام ، واحتضان الدعوة الإسلامية ، وكانت المدينة مرتكزا للإسلام ودعوته ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا .
روى محمد بن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفرض الحرب ، على ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وقال : " فإن وفيتم فلكم الجنة " .
بيعة الرضوان تمت عند الحديبية ، عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عثمان بن عفان ، فاحتبسه أهل مكة وأشيع أنه قد قتل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ، وبايع صلى الله عليه وسلم المسلمين على الموت وعلى ألا يفرّوا ، وقد بارك الله هذه البيعة وزكّى أهلها في كتابه العزيز ، حيث قال تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعوك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا . ( الفتح : 18 ) .
دلت الآية على تحريم الشرك بالله ، والسرقة ، والزنا ، وقتل الأولاد ، أي وأد البنات الذي كان في الجاهلية ، ويلحق به الإجهاض ، وإسقاط المرأة نفسها بدون عذر شرعي ، كما دلت الآية على تحريم إلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم ، وعصيان شرع الله فيما أمر ونهى .
ولم تقتصر المنهيات على هذه الأمور الستة ، فقد ورد في الحديث النهي عن التولّي يوم الزحف ، وعن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وعن عقوق الوالدين ، وعن الزنا والربا والسحر واليمين الغموس ، وغير ذلك .
روى أحمد ، والشيخان ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال : " ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " xviii
ويفيد الحديث الدعوة إلى الصبر والتصبّر ، واحتساب الثواب عند الله ، والنهي عن الهلع والجزع ، وعدم الرضا بالقضاء والقدر .
وسبق أن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال على ما بايع عليه النساء ، فصارت الآية عامة للرجال والنساء .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره جملة من الأحاديث التي تدل على أن هذه البيعة قد تمّت في أوقات متعددة ، وفي أماكن مختلفة ، وأنها شملت الرجال والنساء .
يبايعنك : يعاهدنك على الطاعة والالتزام بالأوامر واجتناب النواهي .
يا أيها النبي ، إذا جاءك المؤمناتُ يعاهدنك ويقدّمن لك الطاعة ، ويعبدن الله ولا يشركن به شيئا ، ولا يسرقن من مال أحد ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادَهن كما كان يفعل أهل الجاهلية ، ولا يُلحقن بأزواجهنّ من ليس من أولادهم بهتانا وكذبا يختلقنه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يخالفنك في معروف تدعوهنّ إليه ، فعاهِدْهن على ذلك ، واطلب لهن المغفرة من الله ، { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر الذنوب جميعا ، ويشمل عباده برحمته .
{ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } أي لا يأتين بولد ينسبنه الى الزوج فان ذلك بهتان وفرية ، { ولا يعصينك في معروف } أي فيما وافق على طاعة الله تعالى ، { فبايعهن } أمره أن يبايعهن على الشرائط التي ذكرهافي هذه الآية .