ثم بين لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كيف يبايعهن على الإيمان ، هن وغيرهن ممن يردن الدخول في الإسلام . وعلى أي الأسس يبايعهن :
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادهن ، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصينك في معروف ، فبايعهن ، واستغفر لهن الله ، إن الله غفور رحيم . .
وهذه الأسس هي المقومات الكبرى للعقيدة ، كما أنها مقومات الحياة الاجتماعية الجديدة . .
إنها عدم الشرك بالله إطلاقا . . وعدم إتيان الحدود . . السرقة والزنا . . وعدم قتل الأولاد . . إشارة إلى ما كان يجري في الجاهلية من وأد البنات ، كما أنه يشمل قتل الأجنة لسبب من الأسباب . . وهن أمينات على ما في بطونهن . . ( ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ) . . قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن . وكذلك قال مقاتل . ولعل هذا التحفظ - بعد المبايعة على عدم الزنا - كان للحالات الواقعة في الجاهلية من أن تبيح المرأة نفسها لعدة رجال ، فإذا جاءت بولد ، نظرت أيهم أقرب به شبها فألحقته به ، وربما اختارت هي أحسنهم فألحقت به ابنها وهي تعلم من هو أبوه !
وعموم اللفظ يشمل هذه الحالة وغيرها من كل بهتان مزور يدعى . ولعل ابن عباس ومقاتل خصصاه بذلك المعنى لمناسبة واقعة وقتذاك
والشرط الأخير : ( ولا يعصينك في معروف ) . . وهو يشمل الوعد بطاعة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في كل ما يأمرهن به . وهو لا يأمر إلا بمعروف . ولكن هذا الشرط هو أحد قواعد الدستور في الإسلام ، وهو يقرر أن لا طاعة على الرعية لإمام أو حاكم إلا في المعروف الذي يتفق مع دين الله وشريعته . وأنها ليست طاعة مطلقة لولي الأمر في كل أمر ! وهي القاعدة التي تجعل قوة التشريع والأمر مستمدة من شريعة الله ، لا من إرادة إمام ولا من إرادة أمة إذا خالفت شريعة الله . فالإمام والأمة كلاهما محكوم بشريعة الله ، ومنها يستمدان السلطات !
فإذا بايعن على هذه الأسس الشاملة قبلت بيعتهن . واستغفر لهن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما سلف ( إن الله غفور رحيم ) . . يغفر ويرحم ويقيل العثرات .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 ) }
يبايعنك : يعاهدنك بالتزام الطاعة .
ولا يقتلن أولادهن : ولا يئدن البنات .
ببهتان : بزور وكذب بإلصاق اللقطاء بالأزواج .
فبايعهن واستغفر لهن الله : فالتزم لهنّ ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء .
12- { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
تشتمل الآية على مكارم الأخلاق التي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها النساء .
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات مبايعات لك ، ومعاهدات على هذه الأمور ، وهي :
{ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } . من صنم أو حجر .
{ وَلَا يَسْرِقْنَ } . من مال الناس شيئا .
{ وَلَا يَزْنِينَ } . وقد حذر القرآن من الزنا ، وبيّن أنه فاحشة وساء سبيلا .
{ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ } . ولا يئدن البنات ، كما كنّ يفعلن في الجاهلية ، أو لا يقتلن الأجنة في بطونهن ، فإنّ ذلك عدوان وقتل للنفس بغير حق .
{ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ . . . }
ولا يلحقن الأطفال الأجانب بأزواجهن كذبا وزورا ، أو : ولا يأتين بكذب وزور من قبل أنفسهن ، واليد والرجل كناية عن الذات ، لأن معظم الأفعال بهما .
قال المفسرون : كانت المرأة إذا خافت مفارقة زوجها لها لعدم الحمل ، التقطت ولدا ونسبته له ليبقيها عنده ، فالمراد بالآية اللقيط .
{ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ . . . }
ولا يخالفن أمرك فيما أمرتهنّ به من معروف ، أو نهيتهنّ عنه من منكر ، بل يسمعن ويطعن .
{ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ } .
فبايعهن يا رسول الله على ذلك ، واطلب لهنّ من الله الصفح والغفران ، لما سلف منهنّ من الذنوب .
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
أي : واسع المغفرة عظيم الرحمة .
كنت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح ، على جبل الصفا ، وبعدما فرغ من بيعة الرجال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر أسفل منه ، يبايعهنّ بأمره ، ويبلغهنّ عنه ، وما مست يده صلى الله عليه وسلم يد امرأة أجنبية قط .
وكانت هند بنت عتبة – وهي التي شقت بطن حمزة يوم أحد – متنكرة في النساء ، فلما قرأ النبي صلى لله عليه وسلم عليهن الآية ، قال : عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا . . . قالت هند : وكيف نطمع أن يُقبل منّا ما لم يقبل من الرجال ؟ تعني أن هذا بيّن لزومه ، فلما قال : ولا يسرقن . قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان – أي القليل وبعض الشيء من ماله – لأنه رجل شحيح ، ولا أدري أيحلّ لي ذلك أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فقال لها : " وإنك لهند بنت عُتبة " ؟ قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله ، عفا الله عنك ، فلما قرأ : ولا يزنين . قالت : أو تزني الحرة ؟ فلما قرأ : ولا يقتلن أولادهن . قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ، فأنت وهم أعلم وكان ابنها حنظلة قد قُتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما قرأ : { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } . قالت هند : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فلما قرأ : وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ . قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا ، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيءxvi .
2- بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال أيضا على بنود بيعة النساء .
روى البخاري ، عن عبادة بن الصامت قال : كنّا عند النبي صلى الله علي وسلم فقال : " أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا " ، قرأ آية النساء ( أي : آية بيعة النساء ) ، ثم قال : " فمن وفّى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله ، فهو إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " xvii
في مرحلة الإعداد للهجرة ، وتعرّض النبي صلى الله عليه وسلم للوفود ، قابل وفود المدينة المنوّرة ، وتمت بيعت العقبة الأولى والثانية ، وكان لهما أبعد الأثر في تهيئة المدينة المنورة لاستقبال الإسلام ، واحتضان الدعوة الإسلامية ، وكانت المدينة مرتكزا للإسلام ودعوته ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا .
روى محمد بن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفرض الحرب ، على ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وقال : " فإن وفيتم فلكم الجنة " .
بيعة الرضوان تمت عند الحديبية ، عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عثمان بن عفان ، فاحتبسه أهل مكة وأشيع أنه قد قتل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ، وبايع صلى الله عليه وسلم المسلمين على الموت وعلى ألا يفرّوا ، وقد بارك الله هذه البيعة وزكّى أهلها في كتابه العزيز ، حيث قال تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعوك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا . ( الفتح : 18 ) .
دلت الآية على تحريم الشرك بالله ، والسرقة ، والزنا ، وقتل الأولاد ، أي وأد البنات الذي كان في الجاهلية ، ويلحق به الإجهاض ، وإسقاط المرأة نفسها بدون عذر شرعي ، كما دلت الآية على تحريم إلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم ، وعصيان شرع الله فيما أمر ونهى .
ولم تقتصر المنهيات على هذه الأمور الستة ، فقد ورد في الحديث النهي عن التولّي يوم الزحف ، وعن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وعن عقوق الوالدين ، وعن الزنا والربا والسحر واليمين الغموس ، وغير ذلك .
روى أحمد ، والشيخان ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال : " ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " xviii
ويفيد الحديث الدعوة إلى الصبر والتصبّر ، واحتساب الثواب عند الله ، والنهي عن الهلع والجزع ، وعدم الرضا بالقضاء والقدر .
وسبق أن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال على ما بايع عليه النساء ، فصارت الآية عامة للرجال والنساء .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره جملة من الأحاديث التي تدل على أن هذه البيعة قد تمّت في أوقات متعددة ، وفي أماكن مختلفة ، وأنها شملت الرجال والنساء .
{ 12 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
هذه الشروط المذكورة في هذه الآية ، تسمى " مبايعة النساء " اللاتي [ كن ] يبايعن على إقامة الواجبات المشتركة ، التي تجب على الذكور والنساء في جميع الأوقات .
وأما الرجال ، فيتفاوت ما يلزمهم بحسب أحوالهم ومراتبهم وما يتعين عليهم ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل ما أمره الله به ، فكان إذا جاءته النساء يبايعنه ، والتزمن بهذه الشروط بايعهن ، وجبر قلوبهن ، واستغفر لهن الله ، فيما يحصل منهن من التقصير{[1063]} وأدخلهن في جملة المؤمنين بأن { لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } بأن{[1064]} يفردنالله [ وحده ] بالعبادة .
{ وَلَا يَزْنِينَ } كما كان ذلك موجودا كثيرا في البغايا وذوات الأخدان ، { وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ } كما يجري لنساء الجاهلية الجهلاء .
{ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } والبهتان : الافتراء على الغير أي : لا يفترين بكل حالة ، سواء تعلقت بهن وأزواجهن{[1065]} أو سواء تعلق ذلك بغيرهم ، { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أي : لا يعصينك في كل أمر تأمرهن به ، لأن أمرك لا يكون إلا بمعروف ، ومن ذلك طاعتهن [ لك ] في النهي عن النياحة ، وشق الثياب ، وخمش الوجوه ، والدعاء بدعاء{[1066]} الجاهلية .
{ فَبَايِعْهُنَّ } إذا التزمن بجميع ما ذكر .
{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ } عن تقصيرهن ، وتطييبا لخواطرهن ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : كثير المغفرة للعاصين ، والإحسان إلى المذنبين التائبين ، { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء ، وعم إحسانه البرايا .
{ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } أي لا يأتين بولد ينسبنه الى الزوج فان ذلك بهتان وفرية ، { ولا يعصينك في معروف } أي فيما وافق على طاعة الله تعالى ، { فبايعهن } أمره أن يبايعهن على الشرائط التي ذكرهافي هذه الآية .
{ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } هذه البيعة بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعهن بالكلام ولا تمس يده يد امرأة ورد هذا في الحديث الصحيح عن عائشة ، وروي : أنه صلى الله عليه وسلم لف على يده ثوبا كثيفا ثم لمس النساء يده كذلك ، وقيل : إنه غمس يده في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء ، فغمسن أيديهن فيه .
{ ولا يأتين بهتان } معناه : عند الجمهور أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له وكانت المرأة تلتقط ولدا ، فتقول لزوجها هذا ولدي منك ، وإنما قال يفترينه بين أيديهن وأرجلهن لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها وفرجها الذي تلده به بين رجليها ، واختار ابن عطية أن يكون البهتان هنا على العموم بأن ينسب للرجل غير ولده أو تفتري على أحد بالقول أو تكذب فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل وغير ذلك ، وإلى هذا أشار بعض الناس بأن قال بين أيديهن يراد به اللسان والفم وبين الأرجل يراد به الفرج .
{ ولا يعصينك في معروف } أي : لا يعصينك فيما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي ومن ذلك النهي عن النياحة وشق الجيوب ، ووصل الشعر وغير ذلك مما كان نساء الجاهلية يفعلنه ، وورد في الحديث : أن النساء لما بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبايعة ، فقررهن على أن لا يسرقن قالت هند بنت عتبة وهي امرأة أبي سفيان بن حرب يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل علي إن أخذت من ماله بغير إذنه ، فقال لها : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ، فلما قررهن على أن لا يزنين ، قالت هند : يا رسول الله أتزني الحرة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " لا تزني الحرة " ، يعني في غالب المرأة ، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء فلما قال : " ولا يقتلن أولادهن " ، قالت : نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقفهن على أن لا يعصينه في معروف قالت : ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك ، وهذه المبايعة للنساء غير معمول بها اليوم ، لأنه أجمع العلماء على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا فإما أن تكون منسوخة ، ولم يذكر الناسخ ، أو يكون ترك هذه الشروط لأنها قد تقررت وعلمت من الشرع بالضرورة فلا حاجة إلى اشتراطها .
ولما خاطب سبحانه المؤمنين الذي لهم موضع الذب والحماية والنصرة بما وطن به المؤمنات في دار الهجرة فوقع الامتحان وعرف الإيمان ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن فقال { يا أيها النبي } مخاطباً له بالوصف المقتضي للعلم ، ودل على تحقق{[64709]} كون ما يخبر به من مجيئهن بأداة التحقيق{[64710]} علماً من أعلام النبوة فقال : { إذا جاءك المؤمنات } جعل إقبالهن عليه{[64711]} صلى الله عليه وسلم لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الوصف عليهن { يبايعنك } أي كل واحدة{[64712]} منهن تبايع { على أن لا يشركن } أي يوقعن الإشراك لأحد من الموجودات في وقت من الأوقات { بالله } أي الملك الذي لا كفوء له { شيئاً } أي من إشراك على الإطلاق .
ولما كان الشرك بذل حق الملك لمن لا يستحقه ، أتبعه أخذ مال المالك بغير حق{[64713]} لاقتضاء الحال لذلك بتمكن المرأة من اختلاس مال الزوج وعسر تحفظه منها{[64714]} فقال : { ولا يسرقن } أي يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية ، وأتبع ذلك بذل حق الغير لغير أهله فقال : { ولا يزنين } أي يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح .
ولما كان الزنا قد يكون سبباً في إيجاد أو إعدام نسمة بغير حقها ، أتبعه إعدام نسمة بغير حقه فقال : { ولا يقتلن أولادهن } أي بالوأد{[64715]} كما تقدم في النحل وساء في ذلك كونه من زنا أو لا .
ولما ذكر إعدام نسمة بغير {[64716]}حق ولا وجه شرعي{[64717]} أتبعه ما يشمل{[64718]} إيجاد نسمة بغير حل ، فقال مقبحاً له على سبيل الكناية{[64719]} عنه بالبهتان وما معه بالتصوير له بلوازمه وآثاره لأن استحضار القبيح وتصوير صورته أزجر عنه فقال : { ولا يأتين ببهتان } أي ولد من غير الزوج يبهت من الحاقة به حيرة في نفيه عنه { يفترينه } أي يتعمدن كذبه ، وحقق المراد به{[64720]} وصوره بقوله : { بين أيديهن } أي{[64721]} بالحمل في البطون{[64722]} { وأرجلهن } أي بالوضع من الفروج ولأن عادة الولد مع أنه يسقط بين أيدي أمه ورجليها أنه يمشي أمامها ، وهذا شامل لما كان من شبهة أو لقطة . ولما حقق هذه الكبائر العظيمة{[64723]} تعظيماً لأمرها لعسر الاحتراز منها ، وأكد النهي عن الزنى مطابقة وإلزاماً لما يجر إليه من شرور{[64724]} القتل فما دونه ، وغلظ أمر النسب{[64725]} لما يتفرع عليه من إيقاع الشبهات وانتهاك الحرمات ، عم في النهي فقال : { ولا يعصينك } أي على{[64726]} حال من الأحوال { في معروف } أي فرد كان منه صغيراً كان{[64727]} أو كبيراً ، وفي ذكره مع العلم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به إشعار بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وقدم المنهيات على المأمورات المستفادة من المعروف لأن التخلي عن الرذائل مقدم على التخلي بالفضائل لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح : { فبايعهن } أي التزم {[64728]}لهن بما{[64729]} وعدت على ذلك من إعطاء الثواب لمن وفت منهن في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة . ولما كان الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله : { واستغفر } أي اسأل { لهن الله } أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره .
ولما كانت عظمته سبحانه مانعة لعظيم الهيبة من سؤاله ما طمع به ، علله بقوله معيداً الاسم الأعظم لئلا يظن بإضماره وتقيده{[64730]} بحيثية الهجرة من النساء ونحو ذلك مؤكداً لما طبع الأدمي عليه من أنه لا يكاد يترك المسيء{[64731]} من عقاب أو عتاب فضلاً عن التفضيل بزيادة الإكرام : { إن الله } أي الذي له صفات {[64732]}الجلال والإكرام{[64733]} فلو أن الناس لا يذنبون لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم لتظهر صفة إكرامه { غفور } أي بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً { رحيم * } أي بالغ الإكرام بعد الغفران فضلاً منه وإحساناً ، وقد حقق سبحانه ذلك وصدق ، ومن أصدق من الله قيلاً ، " فأقبل النساء للبيعة عامة ثاني يوم الفتح على الصفا بعد فراغه{[64734]} صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال فنزلت هذه الآية وهو على الصفا فقام عمر بن الخطاب رضي الله أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة{[64735]} متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها ، فلما ذكر الشرك قالت{[64736]} : والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال{[64737]} ، وبايع الرجال يومئذ{[64738]} على الإسلام والجهاد ، فقال :{ ولا يسرقن } فقالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب{[64739]} من ماله هنات فلا أدري أيحل لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال : وإنك لهند بنت عتبة{[64740]} ، قالت : نعم ، فاعف عني ما سلف عفا الله عنك ، فقال : { ولا يزنين } فقال : أو تزني الحرة ، فقال :{ ولا يقتلن أولادهن } فقالت : ربيناهم صغاراً {[64741]}وقتلتموهم كباراً وأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها{[64742]} حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم{[64743]} رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر البهتان وهو أن تقذف ولداً على زوجها ليس منه ، قالت هند : والله إن البهتان لقبيح وما تدعونا إلا إلى الرشد ومكارم الأخلاق ، فقال { ولا يعصينك {[64744]}في معروف{[64745]} } فقالت : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له ، وكانت أسماء بنت يزيد بن السكن في المبايعات فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابسط يدك نبايعك ، فقال : إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن "
، وعن الشعبي " أنه صلى الله عليه وسلم دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه{[64746]} ثم غمسن أيديهن فيه ، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم لقنهن في المبايعة " فيما{[64747]} استطعتن وأطقتن " فقالت : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا " .