( ولوطا آتيناه حكما وعلما ؛ ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ، إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ) .
( وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ) . .
وقصة لوط قد سبقت مفصلة . وهو يشير إليها هنا مجرد إشارة . وقد صحب عمه إبراهيم من العراق إلى الشام ، وأقام في قرية سدوم . وكانت تعمل الخبائث . وهي إتيان الفاحشة مع الذكور جهرة وبلا حياء أو تحرج . فأهلك الله القرية وأهلها : ( إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وآتينا لوطا حُكْما وهو فصل القضاء بين الخصوم ، وعِلْما يقول : وآتيناه أيضا علما بأمر دينه ، وما يجب عليه لله من فرائضه .
وفي نصب «لوط » وجهان : ( أحدهما ) أن ينصب لتعلق الواو بالفعل كما قلنا : وآتينا لوطا والاَخر بمضمر بمعنى : واذكر لوطا .
وقوله : ونَجّيْناهُ مِنَ القَرْيَةِ التي كانَتْ تَعْمَلُ الخَبائِثَ يقول : ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل القرية التي كانت تعمل الخبائث ، وهي قرية سَدُوم التي كان لوط بعث إلى أهلها . وكانت الخبائث التي يعملونها : إتيانَ الذكران في أدبارهم ، وخَذْفهم الناس ، وتضارطهم في أنديتهم ، مع أشياء أُخَر كانوا يعملونها من المُنكر ، فأخرجه الله حين أراد إهلاكهم إلى الشام . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخرجهم الله ، يعني لوطا وابنتيه زيثا وزعرثا إلى الشام حين أراد إهلاك قومه .
وقوله : إنّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته وما يَرْضَى من العمل .
عطف على جملة { ولقد آتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] . وقدّم مفعول { آتيناه } اهتماماً به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعاً لذكر إبراهيم تنبيهاً على أنه بعث بشريعة خاصة ، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم ، وإلى أنه كان في مواطنَ غير المواطن التي حلّ فيها إبراهيم ، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله .
ولأجل البُعد أُعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على { آتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] ، ولم يُعَد في قصة نوح عَقِب هذه .
وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة . وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد . وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك .
والحُكم : الحكمة ، وهو النبوءة ، قال تعالى : { وآتيناه الحكم صبياً } [ مريم : 12 ]
والعِلم : علم الشريعة ، والتنوين فيها للتعظيم .
والقرية ( سدوم ) . وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى : { واسأل القرية } في [ سورة يوسف : 82 ] .
والخبائث : جمع خبيثة بتأويل الفَعلة ، أي الشنيعة . والسّوْء بفتح السين وسكون الواو مصدر ، أي القبيح المكروه . وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أعم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولوطا ءاتيناه} يعني: أعطيناه {حكما} يعني: الفهم والعقل {وعلما ونجيناه من القرية} يعني: سدوم {التي كانت تعمل الخبائث} يعني: السيئ من العمل؛ إتيان الرجال في أدبارهم، فأنجى الله لوطا وأهله، وعذب القرية بالخسف والحصب {إنهم كانوا قوم سوء فاسقين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وآتينا لوطا "حُكْما "وهو فصل القضاء بين الخصوم، "وعِلْما" يقول: وآتيناه أيضا علما بأمر دينه، وما يجب عليه لله من فرائضه
وقوله: "ونَجّيْناهُ مِنَ القَرْيَةِ التي كانَتْ تَعْمَلُ الخَبائِثَ" يقول: ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل القرية التي كانت تعمل الخبائث، وهي قرية سَدُوم التي كان لوط بعث إلى أهلها، وكانت الخبائث التي يعملونها: إتيانَ الذكران في أدبارهم... مع أشياء أُخَر كانوا يعملونها من المُنكر، فأخرجه الله حين أراد إهلاكهم إلى الشام... وقوله: "إنّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ" مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته وما يَرْضَى من العمل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولوطا آتيناه حكما وعلما} قال بعضهم: حكما؛ يعني النبوة،. ومن قال: {حكما} هو النبوة قال: لأن الأنبياء إنما يحكمون بين الناس بالنبوة. فكنوا بالحكم عن النبوة. ومن قال بالفهم، فهو لأنه إنما يحكم بين الناس بعد ما فهم من الخصوم، وإلا حاصل الحكم هو الحكم بين الناس، {وعلما} أي العلم الذي به يحكم، أو {علما} في ما بينه وبين ربه، والله أعلم.
{ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} أضاف عمل الخبائث إلى القرية. ومعلوم أن القرية لا تعمل شيئا، لكن معناه: {ونجيناه من القرية التي} كان أهلها يعملون الخبائث...
{الخبائث} كل أنواع الخبث من الكفر والتكذيب بالآيات واللُّوَاطَة وغيرها.
{إنهم كانوا قوم سوء فاسقين} أي كانوا قوم سوء في أفعالهم وأعمالهم التي كانوا يعملونها {فاسقين} أي خارجين عن أمر الله تاركين له. والفسق هو الخروج عن الأمر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أكمل له الإنعام بعصمته مِنْ مِثلِ ما امْتُحِنَ به قومُه، ثم بخلاصِه منهم بإخراجه إيَّاه مِنْ بينهم، فميزه عنهم ظاهراً وباطناً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
..} ولوطاً {أي وآتيناه أو واذكر لوطاً؛ ثم استأنف قوله: {ءاتيناه} أي بعظمتنا {حكماً} أي نبوة و عملاً محكماً بالعلم {وعلماً} مزيناً بالعمل {ونجيناه} بانفرادنا بالعظمة.
ولما كانت مادة "قرا "تدل على الجمع، قال: {من القرية} المسماة سدوم، أي من عذابهم وجميع شرورهم، وأفرد تنبيهاً على عمومها بالقلع والقلب وأنه كان في غاية السهولة والسرعة، و قال أبو حيان: وكانت سبعاً، عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة. {التي كانت} قبل إنجائنا له منها {تعمل الخبائث} بالذكران، وغير ذلك من الطغيان...
ولما كان في هذا إشارة إلى إهلاك القرية، وأن التقدير: ودمرنا عليهم بعد انفصاله عنهم، علله بقوله: {إنهم كانوا} أي بما جلبوا عليه {قوم سوء} أي ذوي قدرة على الشر بانهماكهم في الأعمال السيئة {فاسقين} خارجين من كل خير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقدّم مفعول {آتيناه} اهتماماً به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعاً لذكر إبراهيم تنبيهاً على أنه بعث بشريعة خاصة، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم، وإلى أنه كان في مواطنَ غير المواطن التي حلّ فيها إبراهيم، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله. ولأجل البُعد أُعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على {آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51]، ولم يُعَد في قصة نوح عَقِب هذه. وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة. وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد. وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك...
والخبائث: جمع خبيثة بتأويل الفَعلة، أي الشنيعة. والسّوْء بفتح السين وسكون الواو مصدر، أي القبيح المكروه. وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر، وهو أعم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وخص لوطا بالذكر، ولم يذكر قوم لوط لحقارتهم ومهانتهم وسوء أفعالهم، وخبيثة نفوسهم حتى انحطوا عن مرتبة الحيوانية في شذوذ الفطرة، وفي ذكر لوط منفردا عن قومه تنويه بشأنه، ورفعة لذكره، وبيان أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قومه مفسدين غير مهديين، فإنه جاء لهداية الضال وإصلاح الفاسد، فإن لم يصلحوا دمر الله عليهم وأنشأ قوما آخرين.
{آتيناه حكما} الحكم هنا الحكمة والحلم والصبر على معاشرة المفسدين، وإلا فأي حكمة أوتيها ذلك النبي الكريم الذي استطاع بها أن يعاشر أولئك الشواذ من الإنسانية يدعوهم ويأخذهم بالهداية والإرشاد والرفق في القول ويستمر في رعايتهم هاديا مرشدا من غير سأم ولا ملال، حتى إذا جاءه ملائكة الله يبدو سوء نفوسهم ويظهر حتى يداريهم ليسكتوا فلا يسكتون...
{من القرية} أي المدينة العظيمة، أو المدائن العظيمة، وذكرت بالمفرد لإرادة جنس هذه القرية الموصوفة بذلك الوصف المشئوم البغيض،...
و"السوء" ما يسوء ويؤذي النفس والطبائع السليمة، {فاسقين} شاذين خارجين على الفطرة الإنسانية إذ انهووا إلى ما دون الحيوان. وأكد سبحانه وصفهم بالسوء والفسق أولا، ب {كانوا} أي استمروا عليه، وإضافتهم إلى السوء، كأنما هم أهله لا يخرجون عن حيزه، ولا يخرج عنهم ثانيا.
وفرق بين العلم والحكم: العلم أن تحقق وتعرف، أما الحكم فسلوك وتطبيق لما تعلم، فالعلم تحقيق والحكم تطبيق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} من أجل أن يفتح عقول أبناء المجتمع وقلوبهم على الله وعلى الحياة، ويقودهم إلى السلام في الأمور التي يتنازعون فيها، أو التي يختلفون عليها، وذلك من خلال حكمه الذي ينفذ إلى عمق المشاكل ليحللها فيفهم كل خصوصياتها، وذلك أن النبوّة هي إلى جانب أنها حالةٌ رساليةٌ فكريةٌ، هي حالة قيادية حركية تنفيذية تصل إلى الواقع النظري بالعقل العملي. إلا أن لوطاً العالم الحاكم الحكيم عاش حياةً صعبةً بين قوم لا يفهمونه ولا يعرفون تطلعاته وأهدافه، ولا ينفذون في وعيهم إلى الجانب العميق من تعاليمه، وإلى الأفق الواسع من حكمته، بل كانوا مستسلمين لشهواتهم الجسدية، فقد كانوا يعملون الخبائث ويثيرون المشاكل في وجهه، ويتعرّضون لكل الناس القادمين إليه ليعتدوا عليهم بالعمل السيئ؛ وقد عمل لوط على هدايتهم، وصبر عليهم كأشد ما يصبر نبيّ على قومه حتى استنفد تجاربه كلها، إلا أن ذلك كله لم يؤد إلى نتيجة إيجابية في حساب الإيمان؛ فكان مثله مثل العالم الحكيم الصابر الثابت في موقفه، المتمرد على كل نقاط الضعف في الموقف فلا يكلّ ولا يملّ ولا ييأس، خلافاً للعلماء الذين ينظرون إلى المسؤولية من خلال مزاجهم، فلا يرتاحون للمصاعب التي تواجههم، ويتعقدون من الكلمات التي يسمعونها، والتحديات التي يواجهونها، فيسقطون أمام ذلك كله ويتراجعون عن الرسالة، في موقف ضعف وهروب، فينسون الآفاق الواسعة التي تتيح لهم الحركة للوصول إلى الهدف المنشود.