وكانت [ مناة ] بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة . وكانت خزاعة والاوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
وكان بالجزيرة كثير من هذه المعبودات تعظمها القبائل المختلفة . ولكن هذه الثلاثة كانت أعظمها .
والمظنون أن هذه المعبودات كانت رموزا لملائكة يعتبرهن العرب إناثا ويقولون : إنهن بنات الله . ومن هنا جاءت عبادتها ، والذي يقع غالبا أن ينسى الأصل ، ثم تصبح هذه الرموز معبودات بذاتها عند جمهرة العباد . ولا تبقى إلا قلة متنورة هي التي تذكر أصل الأسطورة !
يقول تعالى ذكره : أفرأيتم أيها المشركون اللاّت ، وهي من الله ألحقت فيه التاء فأنثت ، كما قيل عمرو للذكر ، وللأنثى عمرة وكما قيل للذكر عباس ، ثم قيل للأنثى عباسة ، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره ، وتقدّست أسماؤه ، فقالوا من الله اللات ، ومن العزيز العُزّى وزعموا أنهن بنات الله ، تعالى الله عما يقولون وافتروا ، فقال جلّ ثناؤه لهم : أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعُزّى ومناة الثالثة بناتُ الله ألَكُمُ الذّكَرُ يقول : أتختارون لأنفسكم الذكرَ من الأولاد ، وتكرهون لها الأنثى ، وتجعلون لَهُ الأُنْثَى التي لا ترضونها لأنفسكم ، ولكنكم تقتلونها كراهة منكم لهنّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : اللات فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفتُ .
وذُكر أن اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش . وقال بعضهم : كان بالطائف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أفَرَأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى أما اللات فكان بالطائف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفَرأيْتُمُ اللات والعُزّى قال : اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش .
وقرأ ذلك ابن عباس ومجاهد وأبو صالح «اللاّتّ » بتشديد التاء وجعلوه صفة للوثن الذي عبدوه ، وقالوا : كان رجلاً يَلُتّ السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه . ذكر الخبر بذلك عمن قاله :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «أفَرأيْتُمُ اللاّتّ والعُزّى » قال : كان يَلُتّ السويق للحاجّ ، فعكف على قبره .
قال : ثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «أفَرأيْتُمُ اللاّتّ » قال : اللاّتّ : كان يلتّ السويق للحاجّ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «اللاّتّ » قال : كان يَلُتّ السويق فمات ، فعكفوا على قبره .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : اللاّتّ قال : رجل يلتّ للمشركين السويق ، فمات فعكفوا على قبره .
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي صالح ، في قوله : «اللاّتّ » قال : اللاتّ : الذي كان يقوم على آلهتهم ، يَلُتّ لهم السويق ، وكان بالطائف .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي الأشهب ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ، قال : كان يلتّ السويق للحاجّ .
وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك قراءة من قرأه بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفت لقارئه كذلك لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه . وأما العُزّى فإن أهل التأويل اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : كان شجرات يعبدونها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد والعُزّى قال : العُزّى : شُجيرات .
وقال آخرون : كانت العُزّى حَجَرا أبيض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : العُزّى : حَجَر أبيض .
وقال آخرون : كان بيتا بالطائف تعبده ثقيف . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالعُزّى قال : العزّى : بيت بالطائف تعبده ثقيف .
وقال آخرون : بل كانت ببطن نَخْلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال : أما مناةُ فكانت بقُدَيد ، آلهة كانوا يعبدونها ، يعني اللات والعُزّى وَمناة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال مناة بيت كان بالمشلّل يعبده بنو كعب .
واختلف أهل العربية في وجه الوقف على اللات ومنات ، فكان بعض نحوييّ البصرة يقول : إذا سكت قلت اللات ، وكذلك مناة تقول : مناتْ .
وقال : قال بعضهم : اللاتّ ، فجعله من اللتّ الذي يَلُتّ ولغة للعرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء يقولون : رأيت طَلْحتْ ، وكلّ شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء ، نحو نعمة ربك وشجرة . وكان بعض نحوّييّ الكوفة يقف على اللات بالهاء «أفَرأيْتُمُ اللاّة » وكان غيره منهم يقول : الاختيار في كل ما لم يضف أن يكون بالهاء رحمة من ربي ، وشجرة تخرج ، وما كان مضافا فجائزا بالهاء والتاء ، فالتاء للإضافة ، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني ، وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب وإن كان للأخرى وجه معروف . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : اللات والعزّى ومناة الثالثة : أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها .
وأما { مناة } فعَلَم مرتجل ، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بهاء تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء ، ويكون ممنوعاً من الصرف ، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفاً لأن تاء لات مثل باء باب ، وأصله : مَنَواة بالتحريك وقد يمد فيقال : منآة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث . وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء ، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعاً لخط المصحف ، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذوَ قديد بين مكة والمدينة ، وكان الأوس والخزرج يطوفون حَوله في الحج عوضاً عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعَوا بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي لأنهم كانوا يسعون بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما كما تقدم عن حديث عائشة في الموطأ } في سورة البقرة { 158 } .
وقرأ الجمهور { ومناة } بتاء بعد الألف . وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين . والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعاً لرسم المصحف فتكون التاء حرفاً من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء { اللات } ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس .
ووصفها بالثالثة لأنها ثالثة في الذّكر وهو صفة كاشفة ، ووصفها بالأخرى أيضاً صفة كاشفة لأن كونها ثالثة في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع ، فالحاصل من الصفتين تأكيدٌ ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك ، فاللات في أعْلى تهامة بالطائف ، والعُزَّى في وسطها بنخلةَ بين مكة والطائف ، ومناة بالمُشلل بين مكة والمدينة فهي ثالثة البقاع .
وقال ابن عطية : كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً ولذلك قال تعالى : { الثالثة الأخرى } فأكدها بهاتين الصفتين .
والأحسن أن قوله : { الثالثة الأخرى } جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظنّ أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا : « وفلانٌ هو الآخَر » ووجهه هنا أن عُبَّاد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها المشركون اللاّت، وهي من الله ألحقت فيه التاء فأنثت، كما قيل عمرو للذكر، وللأنثى عمرة وكما قيل للذكر عباس، ثم قيل للأنثى عباسة، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره، وتقدّست أسماؤه، فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العُزّى وزعموا أنهن بنات الله، تعالى الله عما يقولون، وافتروا، فقال جلّ ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعُزّى ومناة الثالثة بناتُ الله" ألَكُمُ الذّكَرُ "يقول: أتختارون لأنفسكم الذكرَ من الأولاد، وتكرهون لها الأنثى، وتجعلون لَهُ الأُنْثَى التي لا ترضونها لأنفسكم، ولكنكم تقتلونها كراهة منكم لهنّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: اللات فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفتُ.
وذُكر أن اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش. وقال بعضهم: كان بالطائف... قال ابن زيد، في قوله: "أفَرأيْتُمُ اللات والعُزّى" قال: اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش...
وأما العُزّى فإن أهل التأويل اختلفوا فيها، فقال بعضهم: كان شجرات يعبدونها...
وقال آخرون: كانت العُزّى حَجَرا أبيض... وقال آخرون: كان بيتا بالطائف تعبده ثقيف...
وقال آخرون: بل كانت ببطن نَخْلة... عن قتادة "وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى" قال: أما مناةُ فكانت بقُدَيد، آلهة كانوا يعبدونها، يعني اللات والعُزّى وَمناة.
في قوله: "وَمناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى" قال مناة بيت كان بالمشلّل يعبده بنو كعب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) اسماء أصنام كانت العرب تعبدها، والعزى كانت تعبدها غطفان، وهي شجرة سمرة عظيمة، واللات صنم كانت ثقيف تعبدها، ومناة كانت صخرة عظيمة لهذيل وخزاعة كانوا يعبدونها فقيل لهم: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها وتعبدون معها الملائكة وتزعمون ان الملائكة بنات الله، فوبخهم الله تعالى فقال (أفرأيتم) هذه (اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) والمعنى أخبرونا عن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل لها من هذه الآيات والصفات شيء.
قال أفرأيتم هذه الأصنام مع زلتها وحقارتها شركاء الله مع ما تقدم، فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عظمة آيات الله تعالى الكبرى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى، فانظروا إلى اللات والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه. المسألة الثالثة: أين تتمة الكلام الذي يفيد فائدة ما؟ نقول قد تقدم بيانه وهو أنه يقول هل رأيتم هذه حق الرؤية، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء، نظيره ما ذكرنا فيمن ينكر كون ضعيف يدعي ملكا، يقول لصاحبه أما تعرف فلانا مقتصرا عليه مشيرا إلى بطلان ما يذهب إليه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفي الآية حذف دل عليه الكلام، أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
و "مناة " من " المنان " إلحادا في أسماء الله وتجريا على الشرك به، وهذه أسماء متجردة عن المعاني، فكل من له أدنى مسكة من عقل، يعلم بطلان هذه الأوصاف فيها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأما {مناة} فعَلَم مرتجل {الثالثة الأخرى} جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظنّ أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا: « وفلانٌ هو الآخَر» ووجهه هنا أن عُبَّاد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه.