في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

19

وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب ، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين :

( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد ) . .

ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض ، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ? !

وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال ؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة ، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن جمودها ، وتحول الموتى عن الموات !

( بل لله الأمر جميعا ) .

وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .

فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ؛ وأن يدعوا الأمر لله ، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .

فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم ، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب ، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .

( أو تحل قريبا من دارهم ) . .

فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .

( حتى يأتي وعد الله ) . .

الذي أعطاهم إياه ، وأمهلهم إلى انتهاء أجله :

( إن الله لا يخلف الميعاد ) . .

فهو آت لا ريب فيه ، فملاقون فيه ما وعدوه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنّ قُرْآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَىَ بَل للّهِ الأمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلّ قَرِيباً مّن دَارِهِمْ حَتّىَ يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وهم يكفرون بالرحمن وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ : أي يكفرون بالله ولو سير لهم الجبال بهذا القرآن . وقالوا : هو من المؤخر الذي معناه التقديم . وجعلوا جواب «لو » مقدّما قبلها ، وذلك أن الكلام على معنى قيلهم : ولو أن هذا القرآن سيرت به الجبال أو قُطّعت به الأرض ، لكفروا بالرحمن . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى قال : هم المشركون من قريش ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو وسعت لنا أودية مكة ، وسيرت جبالها ، فاحترثناها ، وأحييت من مات منا ، أو قطّع به الأرض ، أو كلم به الموتى فقال الله تعالى : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَميعا .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلَوْ أنّ قُرْآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى قول كفار قريش لمحمد : سير جبالنا تتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة ، أو قرّب لنا الشأم فإنا نتجر إليها ، أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم فقال الله تعالى : وَلَوْ أنّ قُرْآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

قال : ابن جريج ، وقال عبد الله بن كثير ، قالوا : لو فسحت عنا الجبال ، أو كلمت به الموتى ، فنزل ذلك . قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : قالوا : سير بالقرآن الجبال ، قطع بالقرآن الأرض ، أخرج به موتانا .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن كثير : قالوا : لو فسحت عنا الجبال ، أو أجريت لنا الأنهار ، أو أجريت لنا الأنهار ، أو كلمت به الموتى ، فنزل ذلك . قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : قالوا : سير بالقرآن الجبال ، قطع بالقرآن الأرض ، أخرج به موتانا .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن كثير : قالوا : لو فسحت عنا الجبال أو أجريت لنا الأنهار أو كلمت به الموتى فنزل : أفَلَمْ يَيْأسِ الَذِينَ آمَنُوا .

وقال آخرون : بل معناه : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ كلام مبتدأ منقطع عن قوله : وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرّحْمَنِ . قال : وجواب «لو » محذوف استغني بمعرفة السامعين المرادَ من الكلام عن ذكر جوابها . قالوا : والعرب تفعل ذلك كثيرا ، ومنه قول امرىء القيس :

فَلَوْ أنّها نَفْسٌ تَمُوتُ سَرِيحَةً *** ولكِنّها نَفْسٌ تَقَطّعُ أنْفُسَا

وهو آخر بيت في القصيدة ، فترك الجواب اكتفاء بمعرفة سامعه مراده ، وكما قال الاَخر :

فَأُقُسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ *** سِوَاكَ وَلكِنْ لَمْ نَجِدْ لكَ مَدْفَعا

ذكر من قال نحو معنى ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى ذكر لنا أن قُريشا قالوا : إن سرّك يا محمد اتباعك ، أو أن نتبعك ، فسير لنا جبال تهامة ، أو زد لنا في حرمنا ، حتى نتخذ قطائع نخترف فيها ، أو أَحْي لنا فلانا وفلانا ناسا ماتوا في الجاهلية . فأنزل الله تعالى : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى يقول : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أن كفّار قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أذهب عنا جبال تهامة حتى نتخذها زرعا فتكون لنا أرضين ، أو أحي لنا فلانا وفلانا يخبروننا حقّ ما تقول فقال الله : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى بَلِ لِلّهِ الأمْرُ جَمِيعا يقول : لو كان فعل ذلك بشيء من الكتب فيما مضى كان ذلك .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ الآية . . . قال : قال كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : سير لنا الجبال كما سُخرت لداود ، أو قطّع لنا الأرض كما قطّعت لسليمان فاغتدى بها شهرا وراح بها شهرا ، أو كلم لنا الموتى كما كان عيسى يكلمهم يقول : لم أُنزل بهذا كتابا ، ولكن كان شيئا أعطيته أنبيائي ورسلي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ . . . الآية . قال : قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقا فسير عنا هذه الجبال واجعلها حروثا كهيئة أرض الشام ومصر والبُلْدان ، أو ابعث موتانا فأخبرهم فإنهم قد ماتوا على الذي نحن عليه فقال الله تعالى : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى : لم يصنع ذلك بقرآن قَطّ ولا كتاب ، فيصنع ذلك بهذا القرآن .

القول في تأويل قوله تعالى : «أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعا » .

اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله : أفَلَمْ يَيْأَسِ فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه : ألم يعلم ويتبيّن ويستشهد لقيله ذلك ببيت سحيم بن وَثِيل الرياحيّ :

أقُولُ لَهُمْ بالشّعْبِ إذْ يأمِرُونَنِي *** ألَمْ تَيْأَسُوا أنّي ابنُ فارِسِ زَهْدِم

ويُروى : «ييسرونني » ، فمن رواه : «ييسرونني » فإنه أراد : يقسمونني من الميسر ، كما يقسم الجَزور . ومن رواه : «يأسرونني » ، فإنه أراد : الأسر . وقال : عنى بقوله : ألم تيأسوا : ألم تعلموا . وأنشدوا أيضا في ذلك :

ألَمْ يَيْأسِ الأقْوَامُ أنّي أنا ابْنُهُ *** وإنْ كُنتُ عَنْ أرْضِ العَشِيرَةِ نائِيا

وفسروا قوله : «ألم ييأس » : ألم يعلم ويتبين . وذُكر عن ابن الكلبيّ أن ذلك لغة لحيّ من النخَع ، يقال لهم : وَهْبيل ، تقول : ألم تيأس ، كذا بمعنى : ألم تعلمه . وذُكر عن القاسم بن معن أنها لغة هوزان ، وأنهم يقولون : يَئِست كذا : علمت .

وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك ، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول : «يئست » بمعنى : «علمت » ، ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا : «يئست » بمعنى : «علمت » ، يتوجه إلى ذلك أن الله قد أوقع إلى المؤمنين ، أنه لو شاء لهدَى الناس جميعا ، فقال : أفلم ييأسوا علما ، يقول : يؤيسهم العلم ، فكان فيه العلم مضمرا ، كما يقال : قد يئست منك أن لا تفلح علما ، كأنه قيل : علمته علما ، قال : وقول الشاعر :

حتى إذَا يَئِسَ الرّماةُ وأرْسَلُوا *** غُضْفا دَوَاجِنَ قافلاً أَعْصَامها

معناه : حتى إذا يئسوا من كلّ شيء مما يمكن إلا الذي ظهر لهم أرسلوا ، فهو في معنى : حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا وانتهى علمهم ، فكان ما سواه يأسا .

وأما أهل التأويل فإنهم تأوّلوا ذلك بمعنى : أفلم يعلم ويتبين . ذكر من قال ذلك منهم :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن مولى يخبر أن عليّا رضي الله عنه كان يقرأ : «أفلم يَتَبيّن الذين آمَنُوا » .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن حنظلة ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : أفَلَمْ يَيْأَسِ يقول : أفلم يتبين .

حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن جرير ، بن حازم ، عن الزبير بن الحارث ، أو يعلى بن حكيم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : «أفَلَمْ يَتَبَيّنِ الّذِينَ آمَنُوا » قال : كتب الكاتب الأخرى هو ناعس .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال في القراءة الأولى : زعم ابن كثير وغيره : «أفلم يتبين » .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا يقول : ألم يتبين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا يقول : يعلم .

حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، في قوله : أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا قال : أفلم يتبين .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا قال : ألم يتبين الذين آمنوا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا قال : ألم يعلم الذين آمنوا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا قال : ألم يعلم الذين آمنوا .

والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل : إن تأويل ذلك : أفلم يتبين ويعلم لإجماع أهل التأويل على ذلك والأبيات التي أنشدناها فيه .

فتأويل الكلام إذن : ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال لسير بهذا القرآن ، أو قطّعت به الأرض لقطّعت بهذا ، أو كلّم به الموتى لكلّم بهذا ، ولو يفعل بقرآن قبل هذا القرآن لفُعل بهذا . بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِيعا يقول : ذلك كله إليه وبيده ، يهدى من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له ويضلّ من يشاء فيخذله ، أفلم يتبين الذين آمنوا بالله ورسوله إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم من تسيير الجبال عنهم وتقريب أرض الشام عليهم وإحياء موتاهم ، أن لو يشاء الله لهدَى الناس جميعا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه . يقول تعالى ذكره : فما معنى محبتهم ذلك مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إليّ وبيدي أنزلت آية أو لم أنزلها أهدي من أشاء بغير إنزال آية ، وأضلّ من أردت مع إنزالها .

القول في تأويل قوله تعالى : «وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إنّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الميعادَ » .

يقول تعالى ذكره : ولا يزال يا محمد الذين كفروا من قومك تُصيبهم بما صنعوا من كفرهم بالله وتكذيبهم إياك وإخراجهم لك من بين أظهرهم قارعة ، وهي ما يقرعهم من البلاء والعذاب والنقم ، بالقتل أحيانا ، وبالحروب أحيانا ، والقحط أحيانا . أو تحلّ أنت يا محمد ، يقول : أو تنزل أنت قريبا من دارهم بجيشك وأصحابك حتى يأتي وعد الله الذي وعدك فيهم ، وذلك ظهورك عليهم وفتحك أرضهم وقهرك إياهم بالسيف . إنّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ يقول : إن الله منجزك يا محمد ما وعدك من الظهور عليهم ، لأنه لا يخلف وعده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : سرية . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال محمد : حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بنحوه ، غير أنه لم يذكر سرية .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه تلا هذه الآية : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : القارعة : السرية . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم . حتى يأتَي وَعْدُ اللّهِ قال : فتح مكة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير ، أن خصيفا حدثهم ، عن عكرمة ، في قوله : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : نزلت بالمدينة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تحلّ أنت يا محمد قريبا من دارهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : سرية . أوْ تَحُلّ قَرِيبا منْ دَارِهِمْ قال : أنت يا محمد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ يقول : عذاب من السماء ينزل عليهم . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ يعني : نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ : تصاب منهم سرية ، أو تصاب منهم مصيبة ، أو يحلّ محمد قريبا من دارهم . وقوله : حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ قال : الفتح .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي نجيح : أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحو حديث الحسن ، عن شبابة .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : قارعة ، قال : السرايا .

قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الغفار ، عن منصور ، عن مجاهد : قارِعَةٌ : مصيبة من محمد . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : أنت يا محمد . حتى يأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ قال : الفتح .

قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : قارِعَةٌ قال : كتيبة .

قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : سرية . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : أنت يا محمد .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنعُوا قارِعَةٌ : أي بأعمالهم أعمال السوء . وقوله : أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ أنت يا محمد . حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ ووعد الله : فتح مكة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : قارِعَةٌ قال : وقيعة . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ، يقول : أو تحلّ أنت قريبا من دارهم .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا محمد بن طلحة ، عن طلحة ، عن مجاهد : تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : سرية .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : السرايا : كان يبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم . أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دارِهِمْ أنت يا محمد . حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ قال : فتح مكة .

قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن بعض أصحابه ، عن مجاهد : تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : كتيبة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا يَزالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ قال : قارعة من العذاب .

وقال آخرون : معنى قوله : أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ تحلّ القارعة قريبا من دارهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : أو تحلّ القارعة قريبا من دارهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ قال : أو تحلّ القارعة .

وقال آخرون في قوله : حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ قال : يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا إسماعيل بن حكيم ، عن رجل قد سماه عن الحسن ، في قوله : حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ قال : يوم القيامة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

ويحتمل قوله : { ولو أن قرآنا } الآية ، أن يكون متعلقاً بقوله : { وهم يكفرون بالرحمن } فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل «قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض » - هذا تأويل الفراء وفرقة من المتأولين{[6966]} - وقالت فرقة : بل جواب { لو } محذوف ، تقديره : ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه{[6967]} ، وقال أهل هذا التأويل - ابن عباس ومجاهد وغيرهما - إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً - فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ، وقالت فرقة : جواب { لو } محذوف ، ولكن ليس في هذا المعنى ، بل تقديره : لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به ، وتتضمن الآية - على هذا - تعظيم القرآن ، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية .

وقوله : { بل لله الأمر جميعاً } يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين .

وقوله : { أفلم ييئس الذين آمنوا } الآية ، { ييئس } معناه : يعلم ، وهي لغة {[6968]}هوازن - قاله القاسم بن معن - وقال ابن الكلبي : هي لغة هبيل حي من النخع ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي : [ الطويل ]

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني . . . ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم{[6969]}

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : { ولو أن قرآناً } الآية - على التأويلين في المحذوف المقدر - قال في هذه الآية : أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة ، علماً منهم { أن لو يشاء لهدى الناس جميعاً } .

وقرأ ابن كثير وابن محيصن «يأيس » وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد «أفلم يتبين »{[6970]} .

ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته .

وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد : «ولا يزال الذين ظلموا » ثم قال : { أو تحل } أنت يا محمد { قريباً من دارهم } هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى { أو تحل } القارعة { قريباً من دارهم } .

وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير : «أو يحل » بالياء «قريباً من ديارهم » بالجمع .

و «وعد الله » - على قول ابن عباس وقوم - فتح مكة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة ، وأن حال الكفرة هكذا هي أبداً . و «وعد الله » : قيام الساعة ، و «القارعة » : الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه .


[6966]:الذي ذكره الفراء في معاني القرآن أن جواب (لو) لم يأت، فإن شئت جعلت جوابها متقدما: {وهم يكفرون} ، وإن شئت كان جوابه متروكا لأن أمره معلوم، والعرب تحذف جواب الشيء إذا كان معلوما إرادة الإيجاز، قال الشاعر وهو امرؤ القيس: وأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا ومعنى هذا أن الفراء ذكر التأولين، ولكن يترتب على التأويل الأول أن يكون الجواب: "لما آمنوا"، ولا يصح أن يكون قوله: {وهم يكفرون} جوابا، بل هو دليل الجواب، وعبارة ابن عطية توضح أنه لاحظ ذلك عند تقدير الجواب على رأي الفراء.
[6967]:حذف الجواب لدلالة المعنى عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب، ومنه في القرآن قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب}، وقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار}، ومنه في كلام العرب بيت امرىء القيس الذي استشهد به الفراء، وقول امرىء القيس أيضا: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا
[6968]:?????
[6969]:قيل: إن البيت لابن سحيم واسمه جابر بدليل قوله فيه: "أني ابن فارس زهدم"، وزهدم هي فرس سحيم بن وثيل. ويروى البيت: "أني ابن قاتل زهدم"، وعلى هذا يصح أن ينسب إلى سحيم نفسه، وقوله: ييسرونني: من أيسار الجزور، أي: يجتزونني ويقتسمونني، عليه الآسرون بالميسر يتحاسبون على قسمة فدائه، والشاهد فيه أن (ييأس) بمعنى: يعلم، ومثله في ذلك قول مالك بن عوف: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا بمعنى ألم يعلموا ويتبينوا؟ وكان بعض الكوفيين ينكر أن "يئس" تأتي بمعنى: "علم"، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول ذلك، قال الفراء: وأما قول الشاعر (وهو لبيد): حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا غضفا دواجن قافلا أعصامها فمعناه: حتى إذا يشوا من كل شيء مما يمكن إلا الذي ظهر لهم أرسلوا، فهو بمعنى: "حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا" أرسلوا، كان ما وراءه يأسا. (معاني القرآن 2 ـ 64). قد علق أبو حيان على ذلك فقال: "وقد حفظ ذلك غيره، فهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين يقول: "إنها لغة هوازن"، وكذلك نقلها ابن الكلبي" (البحر 5 ـ 392).
[6970]:قال أبو حيان: "وتدل هذه القراءة على أن معنى {أفلم ييأس} هنا معنى العلم، كما تضافرت النقول أنها لغة لبعض العرب، وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: {أفلم ييأس} كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا (ييئس) بغير صورة الهمزة، وهذه كقراءة (فتبينوا) و (فتثبتوا) وكلتاهما في السبعة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

{ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ، ألم يايئس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا }

يجوز أن تكون عطفاً على جملة { كذلك أرسلناك في أمة } لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السّلام كما أشار إليه صفة { أمة قد خلت من قبلها أمم } ، فتكون جملة { ولو أن قرآناً } تتمة للجواب عن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } .

ويجوز أن تكون معترضة بين جملة { قل هو ربي } وبين جملة { أفمن هو قائم على كل نفس } [ سورة الرعد : 33 ] كما سيأتي هنالك . ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفاً على جملة { هو ربي لا إله إلا هو } .

والمعنى : لو أن كتاباً من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك ، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية .

وجواب { لو } محذوف لدلالة المقام عليه . وحذفُ جواب { لو } كثير في القرآن كقوله : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ سورة الأنعام : 27 ] وقوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ سورة السجدة : 12 ] .

ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم ، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب ، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة :

ولو طَارَ ذو حافر قَبلها *** لطارتْ ولكنه لم يَطِر

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس : أن كفار قريش ، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي فقالوا : لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة ، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها ، أو أخرج قصَياً نكلمه .

وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } [ سورة الأنعام : 111 ] ، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم . وعلى هذا يكون { قطعت به الأرض } قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } [ سورة الأنعام : 94 ] .

وجملة { بل لله الأمر جميعاً } عطف على { ولو أن قرآناً } بحرف الإضراب ، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء ، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم ، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم ، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه .

ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري : لأحملنّك على الأدهم ( يريد القيد ) . فأجابه القبعثري بأن قال : مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، فصرفه إلى لون فرس .

والأمر هنا : التصرف التكويني ، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئاً مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء .

وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب { بل } من طرق القصر ، فاللام في قوله : { الأمر } للاستغراق ، و { جميعاً } تأكيد له . وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب { بل } العاطفة .

وفرع على الجملتين { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا ، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً .

وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } [ سورة الرعد : 27 ] .

و{ ييأس } بمعنى يوقن ويعلم ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع { أن } المصدرية ، وأصله مشتق من اليَأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث ، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة ، ومنه قول سُحَيم بن وَثيل الرياحي :

أقول لهم بالشّعْب إذ يَيْسَرُونَنِي *** ألم تأيسوا أني ابنُ فارس زهدم

وشواهد أخرى .

وقد قيل : إن استعمال يَئِس بمعنى عَلِم لغة هَوازن أو لغة بنِي وَهْبيل ( فخذ من النخَع سمي باسم جَد ) . وليس هنالك ما يلجىء إلى هذا . هذا إذا جعل { أن لو يشاء الله } مفعولاً ل { ييأس } . ويجوز أن يكون متعلق { ييأسْ } محذوفاً دل عليه المقام . تقديره : مِن إيمان هَؤلاء ، ويكونَ { أن لو يشاء الله } مجروراً بلام تعليل محذوفة . والتقدير : لأنه لو يشاء الله لهدى الناس ، فيكون تعليلاً لإنكار عَدَم يأسهم على تقدير حصوله .

{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .

معطوفة على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } على بعض الوجوه في تلك الجملة . وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن ، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به ، فهددوا بما سيحلّ بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلّت فيهم وتخيف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكّة .

واستعمال { لا يزال } في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع ، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض ، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله .

ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } [ سورة البقرة : 155 ] .

ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم . وهو لا ملجىء إليه .

والقارعة : في الأصل وصف من القرع ، وهو ضرب جسم بجسم آخر . يقال : قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة . ولما كان القرع يحدث صوتاً مباغتاً يكون مزعجاً لأجل تلك البغتة صار القرع مجازاً للمباغتة والمفاجأة ، ومثله الطّرْق . وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف مُلتزم الحذف اختصاراً لكثرة الاستعمال ، وهو ما يؤوّل بالحادثة أو الكائنة أو النازلة ، كما قالوا : داهية وكارثة ، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعاً على النفس . ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة .

والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها . وهي مِثل الغارة والكارثة تحلّ فيهم فيصيبهم عذابها ، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم ، فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال ، ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة .

ومعنى { بما صنعوا } بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيئَهم . وأتي في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم .

وضمير { تحل } عائد إلى { قارعة } فيكون ترديداً لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريباً من أرضهم فهم في رعب منها وفزع ويجوز أن يكون { تحل } خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنتَ مع الجيش قريباً من دارهم . والحلول : النزول .

وتحُلّ : بضم الحاء مضارع حَلّ اللازم . وقد التزم فيه الضم . وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح لامية الأفعال ، وهو وجيه .

و { وعد الله } من إطلاق المصدر على المفعول ، أي موعود الله ، وهو ما توعدهم به من العذاب ، كما في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ سورة آل عمران : 12 ] ، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم ، فكان المعنى أنه غلبُ القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى . ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح .

وإتيان الوعد : مجاز في وقوعه وحلوله .

وجملة { إن الله لا يخلف الميعاد } تذييل لجملة { حتى يأتي وعد الله } إيذاناً بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع . والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛

فقال بعضهم: معناه: وهم يكفرون بالرحمن "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ": أي يكفرون بالله ولو سير لهم الجبال بهذا القرآن. وقالوا: هو من المؤخر الذي معناه التقديم. وجعلوا جواب «لو» مقدّما قبلها، وذلك أن الكلام على معنى قيلهم: ولو أن هذا القرآن سيرت به الجبال أو قُطّعت به الأرض، لكفروا بالرحمن... عن ابن عباس، قوله: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى "قال: هم المشركون من قريش، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو وسعت لنا أودية مكة، وسيرت جبالها، فاحترثناها، وأحييت من مات منا، أو قطّعت به الأرض، أو كلم به الموتى فقال الله تعالى: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَميعا"...

وقال آخرون: بل معناه: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ" كلام مبتدأ منقطع عن قوله: "وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرّحْمَنِ". قال: وجواب «لو» محذوف استغني بمعرفة السامعين المرادَ من الكلام عن ذكر جوابها. قالوا: والعرب تفعل ذلك كثيرا... عن قتادة، قوله: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى" ذكر لنا أن قُريشا قالوا: إن سرّك يا محمد اتباعك، أو أن نتبعك، فسير لنا جبال تهامة، أو زد لنا في حرمنا، حتى نتخذ قطائع نخترف فيها، أو أَحْي لنا فلانا وفلانا ناسا ماتوا في الجاهلية. فأنزل الله تعالى: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى" يقول: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم...

«أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعا».

اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: "أفَلَمْ يَيْأَسِ" فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه: ألم يعلم ويتبيّن... وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول: يئست بمعنى: علمت، ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا: يئست، بمعنى: علمت، يتوجه إلى ذلك أن الله قد أوقع إلى المؤمنين، أنه لو شاء لهدَى الناس جميعا، فقال: أفلم ييأسوا علما، يقول: يؤيسهم العلم، فكان فيه العلم مضمرا، كما يقال: قد يئست منك أن لا تفلح علما... وأما أهل التأويل فإنهم تأوّلوا ذلك بمعنى: أفلم يعلم ويتبين...

والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل: إن تأويل ذلك: أفلم يتبين ويعلم لإجماع أهل التأويل على ذلك...

فتأويل الكلام إذن: ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال لسير بهذا القرآن، أو قطّعت به الأرض لقطّعت بهذا، أو كلّم به الموتى لكلّم بهذا، ولو يفعل بقرآن قبل هذا القرآن لفُعل بهذا. "بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِيعا" يقول: ذلك كله إليه وبيده، يهدي من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له، ويضلّ من يشاء فيخذله، أفلم يتبين الذين آمنوا بالله ورسوله إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم من تسيير الجبال عنهم وتقريب أرض الشام عليهم وإحياء موتاهم، أن لو يشاء الله لهدَى الناس جميعا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه. يقول تعالى ذكره: فما معنى محبتهم ذلك مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إليّ وبيدي أنزلت آية أو لم أنزلها أهدي من أشاء بغير إنزال آية، وأضلّ من أردت مع إنزالها.

«وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إنّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الميعادَ».

يقول تعالى ذكره: ولا يزال يا محمد الذين كفروا من قومك تُصيبهم بما صنعوا من كفرهم بالله وتكذيبهم إياك وإخراجهم لك من بين أظهرهم قارعة، وهي ما يقرعهم من البلاء والعذاب والنقم، بالقتل أحيانا، وبالحروب أحيانا، والقحط أحيانا. "أو تحلّ" أنت يا محمد، يقول: أو تنزل أنت قريبا من دارهم بجيشك وأصحابك "حتى يأتي وعد الله" الذي وعدك فيهم، وذلك ظهورك عليهم وفتحك أرضهم وقهرك إياهم بالسيف. "إنّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ" يقول: إن الله منجزك يا محمد ما وعدك من الظهور عليهم، لأنه لا يخلف وعده... عن ابن عباس، في قوله: "وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ" قال: سرية. "أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ" قال محمد: حتى يأتي وعد الله، قال: فتح مكة...

وقال آخرون: معنى قوله: "أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ": تحلّ القارعة قريبا من دارهم...

وقال آخرون في قوله: "حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ" قال: يوم القيامة...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

"وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ"... لو أن قرآنك الذي تقرأ عليهم (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) لما آمنوا بك، ولما صدقوك على رسالتك على ما لا يؤمنون بالرحمن، وكل من الخلائق له آية لوحدانيته، يخبر عن شدة تعنتهم وتمردهم في تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سؤالهم الآية سؤال تعنت وتمرد، ليس سؤال استرشاد واستهداء...

(أفلم ييأس الذين آمنوا) من إيمانهم لكثرة ما رأوا منهم من العناد والتعنت بعد رؤيتهم الآيات والحجج، كأن أهل الإيمان والإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات التي سألوا هم رغبة في إسلامهم وإشفاقا عليهم، فيقول، والله أعلم، ألم يأن للذين آمنوا الإياس من إيمانهم؛ أي قد آن للذين آمنوا أن ييأسوا من إيمانهم كقوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) الآية [الأنعام: 111]. فعلى ذلك هذا؛ يقول: قد آن للذين آمنوا أن ييأسوا من إيمانهم، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا، كقوله: (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) [الأنعام: 111]...

وقوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) محتمل ما ذكر من إصابة القارعة الجوع والشدائد التي أصابتهم، ويحتمل القتال والحروب التي كانت بينه وبينهم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

هذه الآية تتضمن وصف القرآن بغاية ما يمكن من علو المنزلة وبلوغه أعلى طبقات الجلال، لأنه تعالى قال:"لو أن قرآنا سيرت به الجبال" من مواضعها وقلعت من أماكنها لعظم محله وجلالة قدره. والتسيير: تصيير الشيء بحيث يسير... "أو قطعت به الارض "لمثل ذلك.

والتقطيع: تكثير القطع... والقطع: فصل المتصل "أو كلم به الموتى" لمثل ذلك حتى يعيشوا أو يحيوا، تقول: كلمه كلاما، وتكلم تكلما، والكلام: ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله لإفادة. والموتى: جمع ميت... ولم يجئ جواب (لو) لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لكان هذا القرآن لعظم محله في نفسه وجلالة قدره...

وقوله: "بل لله الامر جميعا" معناه أن جميع ما ذكر -من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، وكل تدبير يجري هذا المجرى- لله، لأنه لا يملكه ولا يقدر عليه سواه.

وقوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا" قيل في معناه قولان:...

الثاني: قال الفراء: معناه" أفلم ييأس الذين آمنوا "أن ينقطع طمعهم من خلاف هذا، علما بصحته... والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه.

وقوله" لو يشاء الله لهدى الناس جميعا "معناه ألم يعلموا أن الله لو أراد أن يهدي خلقه كلهم إلى جنته لهداهم، لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق. ويحتمل أن يكون المعنى: لو أراد أن يلجئهم إلى الاهتداء لقدر على ذلك، لكنه ينافي التكليف ويبطل الغرض منه.

وقوله: "ولايزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" فالقارعة هي: الداهية المهلكة، وهي النازلة التي تزعج بالنعمة...

وقوله" أو تحل قريبا من دارهم "قيل في معناه قولان:

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

شؤمُ كُفْرِهم لا يزال واصلاً إليهم، ومقتصُّ فعلهم لاحِقٌ بهم أبداً...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

المعنى: ولو أن قرآنا {سُيّرَتْ بِهِ الجبال} عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها {أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض} حتى تتصدع وتتزايل قطعاً {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن، لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف... {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} على معنيين، أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها؛ إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله: {أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء الله} يعني مشيئة الإلجاء والقسر {لَهَدَى الناس جَمِيعًا}...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{إن الله لا يخلف الميعاد} والغرض منه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن عنه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما فرغ من الجواب عن الكفر بالموحى، عطف على "هو ربي "الجواب عن الكفر بالوحي فقال: {ولو} إشارة إلى أنه يعتقد في القرآن ما هو أهله بعد ما أخبر عن اعتقاده في الرحمن، أي وقل: لو {أن قرآناً} كانت به الآيات المحسوسات بأن {سيرت} أي بأدنى إشارة من مشير ما {به الجبال} أي فأذهبت على ثقلها وصلابتها عن وجه الأرض {أو قطعت} أي كذلك {به الأرض} أي على كثافتها فشققت فتفجرت منها الأنهار {أو كلم به الموتى} فسمعت وأجابت لكان هذا القرآن، لأنه آية لا مثل لها، فكيف يطلبون آية غيره!... ولما كان هذا كله إقناطاً من حصول الإيمان لأحد بما يقترح، تسبب عنه الإنكار على من لم يفد فيه ذلك فقال تعالى: {أفلم} بفاء السبب {ييئس الذين آمنوا} من إيمان مقترحي الآيات بما يقترحون لعلمهم {أن} أي بأنه {لو يشاء الله} أي الذي له صفات الكمال -هداية كل أحد مشيئة مقترنة بوجوده {لهدى الناس} وبين أن اللام للاستغراق بقوله: {جميعاً} أي بأيسر مشيئة، والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه، لكنه لم يهدهم جميعاً فلم يشأ ذلك، ولا يكون إلا ما شاءه، فلا يزال فريق منهم كافراً... ولما علم من ذلك أن بعضهم لا يؤمن، ضاقت صدور المؤمنين لذلك لما يعاينونه من أذى الكفار فأتبعه ما يسليهم عاطفاً على ما قدرته من نتيجة عدم المشيئة، فقال: {ولا يزال الذين كفروا} أي ستروا ضياء عقولهم {تصيبهم بما صنعوا} أي مما مرنوا عليه من الشر حتى صار لهم طبعاً {قارعة} أي داهية تزعجهم بالنقمة من بأسه على يد من يشاء، وهو من الضرب بالمقرعة {أو تحل} أي تنزل نزولاً ثانياً تلك القارعة {قريباً من دارهم} أي فتوهن أمرهم {حتى يأتي وعد الله} أي الملك الأعظم بفتح مكة أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك، لأنه لا يُبقي على الأرض كافراً، وفي غير ذلك من الأزمان كزمن فتح مكة المشرفة، فيكون المعنى خاصاً بالبعض {إن الله} أي الذي له مجامع الكمال {لا يخلف الميعاد} أي الوعد ولا زمانه ولا مكانه؛ والوعد: عقد الخبر بتضمن النفع، والوعيد: عقده بالزجر والضر، والإخلاف: نقض ما تضمن الخبر من خير أو شر...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن. هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات. ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين... ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى. لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته. فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟!... والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى. وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحول الموتى عن الموات! (بل لله الأمر جميعا). وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال. فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم؛ وأن يدعوا الأمر لله، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد. أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه.. ولكن لم يرد هذا ولا ذاك. لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان. فليدعوهم إذن لأمر الله... فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك. (أو تحل قريبا من دارهم).. فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جواب {لو} محذوف لدلالة المقام عليه...

ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب... وجملة {بل لله الأمر جميعاً} عطف على {ولو أن قرآناً} بحرف الإضراب، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه...

وفرع على الجملتين {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً...

{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِي وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}...

واستعمال {لا يزال} في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله...

و {وعد الله} من إطلاق المصدر على المفعول، أي موعود الله، وهو ما توعدهم به من العذاب...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

إن المشركين طلبوا آيات: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} [الأنعام 37]، وكأنهم لا يعتدون بما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من معجزة القرآن، وأنه سبحانه تعالى تحداهم أن يأتوا سورة من مثله، وبدا عجزهم، وظهر إعجازه، ولم يكن لأي آية غير ذلك التحدي المعجز، ولأجل ذلك بين الله سبحانه وتعالى مقام القرآن في ذاته، وأنه أغلى كلام في الوجود، ولو أن كلامه يسير الجبال لسيرها، ولو أن قرآنا يقطع الأرض أجزاء لقطعها... وكان على الكافرين أن يرجعوا عن غيهم، ويسيروا في طريق الرشاد، فالقوارع تنزل بهم قارعة يعد قارعة، أو تحل قريبا من دارهم؛ ولذا قال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} القارعة: الكارثة الداهية أو الشديدة التي تقرع حسا قرعا، تنبههم إلى ما هم فيه من الضلال، فمن لا ينهه الدليل والبرهان، ولا يجديه البرهان لا ينتبه بالعقل، بل لا بد من الشدة تقرع حسه...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} أي لما آمنوا به، ما دام تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، بالنسبة لهؤلاء المعاندين المصرين إنما هو مجرد تحد وإصرار، وعتو واستكبار، وليس الأمر أمر استجلاء للحقائق أو تطلع إلى استكناه الأسرار، فالمعنى المراد إذن أنهم "لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية". {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله} مواساة من الله لرسوله والمؤمنين، وتعريف لهم بأن الحرب التي تدور رحاها بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، مستمرة إلى يوم الدين، وأن أعداء الله وخصوم دينه لا بد أن يلاقوا جزاءهم، بشكل أو آخر على مر الأيام، فكلما انجلت عنهم قارعة وأمنوا مكر الله حلت بساحتهم قارعة أخرى أدهى وأمر، وهم بين القارعتين الماضية والآتية في خوف وهلع، واضطراب وجزع، كما جرى في حروبهم المتتالية، ولاسيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإن لم تحل القارعة بدارهم وتقض عليها، حلت بأقرب مكان إليها، وهكذا يمهلهم الله ولا يهملهم، وهو القاهر فوق عباده {إن الله لا يخلف الميعاد}...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... قد ظن بعض من المسلمين أن كفر هؤلاء قد يشقي المؤمنين بزيادة العنت من الكافرين ضدهم؛ لذلك يوضح الحق سبحانه لأهل الإيمان أن نصره قريب، فيقول سبحانه: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد "31 "} (سورة الرعد) أي: اطمئنوا يا أهل الإيمان؛ فلن يظل حال أهل الكفر على ما هو عليه؛ بل ستصيبهم الكوارث وهم في أماكنهم، وسيشاهدون بأعينهم كيف ينتشر الإيمان في المواقع التي يسودونها؛ وتتسع رقعة أرض الإيمان، وتضيق رقعة أهل الكفر؛ ثم يأتي نصر الله وقد جاء نصر الله ولم يبق في الجزيرة العربية إلا من يقول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"...