في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا} (71)

ويرضى موسى . . وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما :

( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ) . .

سفينة تحملهما وتحمل معهما ركابا ، وهم في وسط اللجة ؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة ! إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر ؛ فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر ?

لقد نسى موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه ، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي ! والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد ، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور النظري . فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد . وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبرا على ما لم يحط به خبرا ، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط . ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكرا .

نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية ، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته . منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله في اندفاعة من اندفاعاته . ثم أناب إلى ربه مستغفرا معتذرا حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر ، هم بالآخر مرة أخرى !

نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة . ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها . ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما غير التصور النظري . ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها .

ومن هنا اندفع موسى مستنكرا :

( قال : أخرقتها لتغرق أهلها ? لقد جئت شيئا إمرا ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا} (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } .

يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم يسيران يطلبان سفينة يركبانها ، حتى إذا أصاباها ركبا في السفينة ، فلما ركباها ، خرق العالم السفينة ، قال له موسى : أخرقتها بعد ما لَجَجنا في البحر لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول : لقد جئت شيئا عظيما ، وفعلت فعلاً مُنكرا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا : أي عجبا ، إن قوما لججوا سفينتهم فخرقتها ، كأحوج ما نكون إليها ، ولكن علم من ذلك ما لم يعلم نبيّ الله موسى ذلك من علم الله الذي آتاه ، وقد قال لنبيّ الله موسى عليه السلام : فإنِ اتّبَعْتَنِي فَلا تَسألْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول : نُكرا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال : منكرا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

والإمر : في كلام العرب : الداهية ومنه قول الراجز :

قَدْ لَقِيَ الأقْرَانُ مّنِي نُكْرَا *** دَاهِيَةً دَهْياءَ إدّا إمْرَا

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : أصله : كلّ شيء شديد كثير ، ويقول منه : قيل للقوم : قد أَمِروا : إذا كثروا واشتدّ أمرهم . قال : والمصدر منه : الأَمَر ، والاسم : الإمْر .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِتُغْرِقَ أهْلَها فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين لِتُغْرِقَ أهْلَها بالتاء في لتغرق ، ونصب الأهل ، بمعنى : لتُغرق أنت أيها الرجل أهل هذه السفينة بالخرق الذي خرقت فيها . وقرأه عامة قرّاء الكوفة : «لِيَغْرَقَ » بالياء أهلها بالرفع ، على أن الأهل هم الذين يغرقون .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، متفقتا المعنى وإن اختلفت ألفاظهما ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب .

وإنما قلنا : هما متفقتا المعنى ، لأنه معلوم أن إنكار موسى على العالِم خرق السفينة إنما كان لأنه كان عنده أن ذلك سبب لغرق أهلها إذا أحدث مثل ذلك الحدث فيها فلا خفاء على أحد معنى ذلك قرىء بالتاء ونصب الأهل ، أو بالياء ورفع الأهل .