{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } عما دعوتكم إليه { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } فلم يبق عليَّ تبعة من شأنكم .
{ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ } يقومون بعبادته ، ولا يشركون به شيئا ، { وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا } فإن ضرركم ، إنما يعود عليكم ، فالله لا تضره معصية العاصين . ولا تنفعه طاعة المطيعين { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } [ { إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } ] .
تفريع على جملة { إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] . وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأنّ مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة { إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] بناء على أنّ هذا من كلام هود عليه السّلام .
وعلى هذا الوجه يكون أصل { تولوا } تتولوا فحذفت إحدى التّاءين اختصاراً ، فهو مضارع ، وهو خطاب هود عليه السّلام لقومه ، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة .
ويجوز أن تكون فعلاً ماضياً ، والواو لأهل مكّة فيكون كالاعتراض في إجراء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصّة نوح عليه السّلام بقوله : { أم يقولون افتراه قل إن افتريته } [ هود : 35 ] الآية . خاطب الله نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يقول لهم : { قد أبلغتكم } . والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة { فقد أبلغتكم } من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقولَ قول مَأمور به محذوف يدلّ عليه السياق . والتقدير : فقل قد أبلغتكم . وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجّه المحتمل معنيين غير متخالفين ، وهو من بديع أساليب الإعجاز ، ولأجله جاء فعل { تولوا } بتاء واحدة بخلاف ما في قوله : { وَإنْ تتولوا يستبدل قوماً غيركم } [ محمد : 38 ] .
والتولّي : الإعراض . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ، في سورة [ النساء : 80 ] .
وجعل جوابُ شرط التولّي قوله : { فقد أبلغتكم } مع أنّ الإبلاغ سابق على التولّي المجعول شرطاً لأنّ المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ ، وهو انتفاء تبعة تولّيهم عنه وبراءته من جرمهم لأنّه أدّى ما وجب عليه من الإبلاغ ، فإنْ كان من كلام هود عليه السّلام ف { ما أرسلت به } هو ما تقدّم ، وإنْ كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصّة قوم هود عليه السّلام .
وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولّي عليهم ونزول العقاب بهم ، ولذلك عطف { ويستخلف ربّي قوماً غيركم } أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم ، وهذا كقوله تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] .
وارتفاع { يستخلف } في قراءة الكافّة لأنّه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم . وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصوداً بذاته لا تبعاً للجواب ، فبذلك يكون مقصوداً به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال .
وكذلك جملة { ولا تضرونه شيئاً } والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئاً و { شيئاً } مصدر مؤكد لفعل { تضرونه } المنفي .
وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالباً . والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي ، أي فالله يلحق بكم الاستئصال ، وهو أعظم الضر ، ولا تضرونه أقلّ ضر ؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يَلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة .
وجملة { إنّ ربّي على كل شيء حفيظ } تعليل لجملة { ولا تضرّونه شيئاً } ، فموقع { إنّ } فيها موقع فاء التفريع .
والحفيظ : أصله مبالغة الحافظ ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه ، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن تولوا} يعني فإن تعرضوا عن الإيمان، {فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} من نزول العذاب بكم في الدنيا، {ويستخلف ربي} بعد هلاككم {قوما غيركم} أمثل وأطوع لله منكم، {ولا تضرونه شيئا} يقول: ولا تنقصونه من ملكه شيئا، إنما تنقصون أنفسكم، {إن ربي على كل شيء} من أعمالكم {حفيظ}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه:"فإنْ تَوَلّوْا" يقول: فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الأوثان، "فَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ "أيها القوم "ما أُرْسِلْتُ بِه إلَيْكُمْ" وما على الرسول إلا البلاغ. "وَيَسْتَخْلِفُ رَبي قَوْما غَيْرَكُمْ" يهلككم ربي، ثم يستبدل ربي منكم قوما غيركم يوحدونه ويخلصون له العبادة.
"وَلا تَضُرّونَهُ شَيْئا" يقول: ولا تقدرون له على ضر إذا أراد إهلاككم أو أهلككم. وقد قيل: لا يضرّه هلاككم إذا أهلككم لا تنقصونه شيئا، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا.
"إنّ رَبّي على كُلّ شَيْءٍ حَفِيظٌ" يقول: إن ربي على جميع خلقه ذو حفظ وعلم، يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) خلفكم، لأنهم كانوا يقولون: (من أشد منا قوة) [فصلت: 15] يقول، والله أعلم: إن قوة أبدانكم وبطشكم لا يعجز الله عن إهلاككم. وفيه أن عادا ليسوا هم النهاية في العالم، بل يكون بعدهم قوم غيرهم، والله أعلم.
(وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) يحتمل وجوها:
أحدها: لا تضرونه بتوليتكم عن إجابتي وردكم رسالة الله إليكم؛ ليس كملوك الأرض إذا تولى عنهم خدمهم وحشمهم ضرهم ذلك.
والثاني: (ولا تضرونه) كما يضر ملوك الأرض بالقتال والحرب بعضهم بعضا.
والثالث: (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) لأنه لا منفعة له في ما يدعوكم حتى يضره ذلك؛ إذ ليس يدعوكم إلى ما يدعو لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، إنما يأمركم، ويدعوكم لحاجة أنفسكم والمنفعة لكم.
والرابع: أن يكون (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) جواب قوله: (فكيدوني جميعا).
[وقوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) لا يخفى عليه شيء وإن لطف، فكيف يخفى عليه أعمالكم وأحوالكم مع ظهورها وبُدُوِّها؟ أو يقول: إن ربي على كل شيء حفيظ، فيجزي عليه؛ أي لا يذهب عنه شيء، أي لا يفوته، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والتولي: الذهاب إلى خلاف جهة الشيء، وهو الإعراض عنه. والمعنى هنا التولي عما دعوتكم إليه من عبادة الله واتباع أمره.
والإبلاغ: إلحاق الشيء بنهايته... وقوله:"ويستخلف ربي قوما غيركم"، فالاستخلاف: جعل الثاني بدل الأول يقوم مقامه فيما كان عليه الأول، فلما كانوا قد كلفوا، فلم يجيبوا، جعل الثاني بدلا منهم في التكليف...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أوحينا إليه أنْ قُلْ لهم: إنْ تَوَلَّوْا ولم تُؤمنوا بي فقد بَلَّغْتُ ما حُمِّلت من رسالتي، وإني واثقٌ بأَنَّ الله إذا أهلككم يأتِ بأقوام آخرين سواكم أطْوعَ له منكم، وإنْ أفناكم ما اختلَّ مُلْكُه؛ إذْ الحقُّ- سبحانه -بوجود الأغيار لا يلحقه زيْنٌ- وإنْ وَحَّدُوا، وبفقدهم لا يَمُّسه شَيْنٌ- وإنْ جحدوا وألحدوا...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(إن ربي على كل شيء حفيظ) أي: حافظ لأمور خلقه على ما دَبَّرَ وقَدَّرَ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا، لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول.
{وَيَسْتَخْلِفُ} كلام مستأنف، يريد: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} بتوليكم {شَيْئاً} من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم.
وفي قراءة عبد الله {وَيَسْتَخْلِفُ} بالجزم وكذلك: ولا تضروه، عطفاً على محل {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} والمعنى: إن يتولوا، يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم.
{على كُلّ شيء حَفِيظٌ} أي رقيب عليه مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى: أنه ما علي كبير همّ منكم إن توليتم، فقد برئت ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم: {فإن تولوا} ولو أدنى تولية -بما يشير إليه حذف التاء، فعليكم اللوم دوني، لأني فعلت ما عليّ {فقد} أي بسبب أني قد {أبلغتكم ما} أي كل شيء {أرسلت} أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره {به إليكم} كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم {ويستخلف ربي} أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه {قوماً غيركم} يخلفونكم في دياركم وأموالكم، فتكونون أعداءه، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم {ولا تضرونه} أي الله بإعراضكم {شيئاً} ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه: {إن ربي} أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي. ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته، قدم قوله: {على كل شيء} صغير أو كبير جليل أو حقير {حفيظ} أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء و بالغ الحفظ له، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر، لأن الحفظ: الحراسة، ويلزمها العلم والقدرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن تولوا} أي فإن تتولوا مجرمين ولم تنتهوا بنهيي لكم عن التولي ولم تطيعوا أمري لكم بعبادة الله وحدة وترك الإشراك به {فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} أي فقد أبلغتكم رسالة ربي التي أرسلني بها إليكم وليس علي غير البلاغ ولزمتكم الحجة، وحقت عليكم كلمة العذاب {ويستخلف ربي قوما غيركم} إذا هو أهلككم بإصراركم على كفركم وإجرامكم {ولا تضرونه شيئا} ما من الضرر بتوليكم عن الإيمان، فإنه غني عنكم وعن إيمانكم {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7] ويستلزم هذا أنكم لا تضرون رسوله ولعله هو المراد، ويؤيده قوله: {إن ربي على كل شيء حفيظ} أي قائم ورقيب عليه بالحفظ والبقاء، على ما اقتضته سنته وتعلقت به مشيئته، ومنه أنه ينصر رسله ويخذل أعداءه وأعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ويستخلف ربي قوما غيركم).. يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم.
(ولا تضرونه شيئا).. فما لكم به من قوة، وذهابكم لا يترك في كونه فراغا ولا نقصا.. (إن ربي على كل شيء حفيظ).. يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربا! وكانت هي الكلمة الفاصلة. وانتهى الجدل والكلام. ليحق الوعيد والإنذار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا تضرونه شيئاً} والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئاً... وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالباً. والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي، أي فالله يلحق بكم الاستئصال، وهو أعظم الضر، ولا تضرونه أقلّ ضر؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يَلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة...
والحفيظ: أصله مبالغة الحافظ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أي إن تتولّوا وتعرضوا عن الإيمان بالرسالة، فهذا شأنكم ومسؤوليتكم التي تتحملونها تجاه مصيركم الذي عرَّفتُكم سلبيّاته وإيجابياته على مستوى الكفر والإيمان، وبذلك فقد أدّيت ما عليّ، وألقيتُ عليكم الحجّة من الله، {فَقَدْ أَبْلَغْتُكمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} ولم أدّخر جهداً، على مستوى المضمون والأسلوب، {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} فلستم أوّل الكافرين، ولستم آخر البشر، فإذا لم تؤمنوا فلن ينتهي الإيمان من العالم، فسيأتي قومٌ آخرون يستخلفهم الله ليعمّروا الأرض، وليعملوا بطاعته، ويسيروا على هداه، {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} لأنه الغني عن عباده في طاعتهم ومعصيتهم، فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، بل هم الرابحون في طاعته، والخاسرون في معصيته، لأن الله لم يأمرهم إلا بما فيه صلاحهم، ولم ينههم إلا عما فيه فسادهم، {إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} بما يوحيه ذلك من إحاطة بكل الأشياء علماً وملكاً وسيطرة، ولذلك فلن يفلت أحدٌ منه، لأنه محيطٌ بهم إحاطة الحافظ بالمحفوظ...