اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ} (57)

" فإن تولَّوْا " أي : تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين ، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله : " أبْلَغْتُكُم " ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات ، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب ، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال : " ويُحْتَمل أن يكون " تَولَّوا " ماضياً ، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ " .

قال شهابُ الدِّين{[18841]} : " ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات : وهو أن يكون على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : قد أبْلَغْتَكم ، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج " فإن تُولُّوا " بضمِّ التَّاءِ واللام ، مضارع " ولَّى " ، والأصل : تُوَلِّيُوا فأعِلّ .

وقال الزمخشريُّ{[18842]} : " فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التَّولِّي ، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ ؟ .

قلت : معناه ، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب " .

قوله : " وَيَسْتَخْلِفُ " العامَّةُ على رفعه استئنافاً . وقال أبو البقاءِ{[18843]} : هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ . وقرأ عبد الله بن مسعودٍ{[18844]} - رضي الله عنه - بتسكينه ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات .

والثاني : أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله : { فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر .

والمعنى : إن تتولوا أهلككم الله ، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ .

قوله : " ولا تَضُرُّونهُ " العامَّةُ : على النُّون ؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم ، وابن مسعودٍ بحذفها{[18845]} ، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ " يَسْتَخْلف " جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره ؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين ، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في " تَضُرُّونَهُ " جوَّز الوجهين في " يَسْتَخْلف " .

و " شيئاً " مصدرٌ ، أي : شيئاً من الضَّرر .

والمعنى : أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً ، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء .

وقيل : لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم ، إنما تضرُّون أنفسكم { إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها . وقيل : يحفظني من شركم ومكركم . وقيل : حفيظ من الهلاكِ إذا شاء ، ويهلك إذا شاء .


[18841]:ينظر: الدر المصون 4/108.
[18842]:ينظر: الكشاف 2/404.
[18843]:ينظر: الإملاء 2/41.
[18844]:ينظر: الكشاف 2/404 ورويت عن عاصم هكذا في المحرر الوجيز 3/182 والبحر المحيط 5/234 وينظر: الدر المصون 4/108.
[18845]:ينظر: الكشاف 2/404 والبحر المحيط 5/234 والدر المصون 4/108.