تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا} (57)

{ 57-59 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا* وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا }

يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما ، ولا أكبر جرما ، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، وخوف ورهب ورغب ، فأعرض عنها ، فلم يتذكر بما ذكر به ، ولم يرجع عما كان عليه ، ونسى ما قدمت يداه من الذنوب ، ولم يراقب علام الغيوب ، فهذا أعظم ظلما من المعرض الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها ، وإن كان ظالما ، فإنه أخف{[492]} ظلما من هذا ، لكون العاصي على بصيرة وعلم ، أعظم ممن ليس كذلك ، ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته ، ونسيانه لذنوبه ، ورضاه لنفسه ، حالة الشر مع علمه بها ، أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه أكنة ، أي : أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعتها ، فليس في إمكانها الفقه الذي يصل إلى القلب ، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي : صمما يمنعهم من وصول الآيات ، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإذا كانوا بهذه الحالة ، فليس لهدايتهم سبيل ، { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما ، وأما هؤلاء ، الذين أبصروا ثم عموا ، ورأوا طريق الحق فتركوه ، وطريق الضلال فسلكوه ، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها ، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه ، أن يحال بينهم وبينه ، ولا يتمكن منه بعد ذلك ، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك .


[492]:- في ب: فإنه أشد، والسياق يدل على ما أثبته.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا} (57)

يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم{[18298]} ممن ذكر بآيات الله{[18299]} فأعرض عنها ، أي : تناساها وأعرض عنها ، ولم يصغ{[18300]} لها ، ولا ألقى إليها بالا { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي : من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة . { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : قلوب هؤلاء { أَكِنَّةً } أي : أغطية وغشاوة ، { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي : لئلا يفهموا{[18301]} هذا القرآن والبيان ، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي : صمم معنوي عن الرشاد ، { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } .


[18298]:في أ: "وأي عبادى أظلم".
[18299]:في ف: "ربه".
[18300]:في ت: "يضع".
[18301]:في ت: "يفهم"، وفي ف، أ: "يفهموه".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا} (57)

لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية ، ومن استهزائهم بالإنذار ، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم . ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم ، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة . وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش « إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي ؟ فقالوا : ما جربنا عليك كذباً » فقال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » .

و ( مَنْ ) المجرورةُ موصولة . وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله : { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } . والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه .

وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل .

ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم : أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة ، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً ، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً ، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم .

ف ( مَن ) استفهام مستعمل في الإنكار ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم .

والنسيان : مستعمل في التغاضي عن العمل . وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } في سورة البقرة ( 106 ) .

ومعنى { ما قدمت يداه } ما أسلفه من الأعمال . وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء ، فصار جارياً مَجرى المثل ، قال تعالى : { ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد } ، وقال : { وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم } .

والآية مصوغة بصيغة العموم ، والمقصود الأول : منها مشركو أهل مكة .

وجملة { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } مستأنفة بيانية نشأت على جملة { ونسي ما قدمت يداه } ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة . وهو يفيد معنى التعليل بالمآل ، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية .

والقلوب مرادُ بها : مَدارك العلم .

والأكنة : جمع كِنان ، وهو الغِطاء ، لأنه يُكن الشيء ، أي يَحجبه .

و { أن يفقهوه } مجرور بحرف محذوف ، أي مِنْ أن يفقهوه ، لتضمين { أكنة } معنى الحائل أو المانع .

والوقر : ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ .

والضمير المفرد في { يفقهوه } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات .

وجملة { وإن تدعهم إلى الهدى } عطف على جملة { إنا جعلنا على قلوبهم } ، وهي متفرعة عليها ، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل .

وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو ( لن ) ، وبلفظ ( أبدا ) المؤكد لمعنى ( لن ) ، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط .

وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني ، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق .