{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } على ألسنة رسلك { وَمَنْ صَلَحَ } أي : صلح بالإيمان والعمل الصالح { مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ } زوجاتهم وأزواجهن وأصحابهم ورفقائهم { وَذُرِّيَّاتِهِمْ } { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } القاهر لكل شيء ، فبعزتك تغفر ذنوبهم ، وتكشف عنهم المحذور ، وتوصلهم بها إلى كل خير { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها ، فلا نسألك يا ربنا أمرا تقتضي حكمتك خلافه ، بل من حكمتك التي أخبرت بها على ألسنة رسلك ، واقتضاها فضلك ، المغفرة للمؤمنين .
{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : اجمع بينهم وبينهم ، لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة ، كما قال [ تعالى ] {[25438]} { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] {[25439]} أي : ساوينا بين الكل في المنزلة ، لتقر أعينهم ، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني ، بل رفعنا الناقص في العمل {[25440]} ، فساويناه بكثير العمل ، تفضلا منا ومنة .
قال سعيد بن جبير : إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه ، وأين هم ؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك{[25441]} في العمل فيقول : إني إنما عملت لي ولهم . فَيُلحَقُونَ به في الدرجة ، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
قال مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير : أنصحُ عبادِ الله للمؤمنين الملائكةُ ، ثم تلا هذه الآية : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } وأغشُّ عباد الله للمؤمنين الشياطينُ .
وقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : الذي لا يمانع ولا يغالب ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، الحكيم في أقوالك وأفعالك ، من شرعك وقدرك {[25442]}
وقرأ جمهور الناس : «جنات عدن » على جمع الجنات . وقرأ الأعمش في رواية المفضل : «جنة عدن » على الإفراد ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود . والعدن : الإقامة .
وقوله : { ومن يصلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } روي عن سعيد بن جبير في تفسير ذلك : أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول : أي أبي ؟ أين أمي ؟ أين زوجتي ؟ فيلحقون به لصلاحهم ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة : وقرأ عيسى بن عمر : «وذريتهم » بالإفراد .
إعادة النداء في خلال جمل الدعاء اعتراض للتأكيد بزيادة التضرع ، وهذا ارتقاء من طلب وقايتهم العذاب إلى طلب إدخالهم مكان النعيم .
والعَدْن : الإِقامة ، أي الخلود . والدعاء لهم بذلك مع تحققهم أنهم موعودون به تأدُب مع الله تعالى لأنه لا يُسأل عما يفعل ، كما تقدم في سورة [ آل عمران : 194 ] قوله : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } .
ويجوز أن يكون المراد بقولهم : { وأدخلهم } عَجِّل لهم بالدخول . ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لقولهم : { وَمَن صَلَح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم } فإن أولئك لم يكونوا موعودين به صريحاً . و { من صلح } عطف على الضمير المنصوب في { أدخلهم } .
والمعنى دعاء بأن يجعلهم الله معهم في مساكن متقاربة ، كما تقدم في قوله تعالى : { هم وأزواجهم في ظلال } في سورة [ يس : 56 ] ، وقوله : { ألحقنا بهم ذرياتهم } في سورة [ الطور : 21 ] .
ورُتبت القرابات في هذه الآية على ترتيبها الطبيعي فإن الآباء أسبق علاقة بالأبناء ثم الأزواجُ ثم الذريات .
وجملة { إنَّك أنت العَزِيز الحَكِيم } اعتراض بين الدعوات استقصاء للرغبة في الإِجابة بداعي محبة الملائكة لأهل الصلاح لما بين نفوسهم والنفوس الملكية من التناسب . واقتران هذه الجملة بحرف التأكيد للاهتمام بها . و ( إنَّ ) في مثل هذا المقام تُغني غَناء فاء السببية ، أي فعزتُك وحكمتك هما اللتان جَرَّأَتَانَا على سؤال ذلك من جلالك ، فالعزة تقتضي الاستغناء عن الانتفاع بالأشياء النفيسة فلما وَعد الصالحين الجنة لم يكن لله ما يضنه بذلك فلا يصدر منه مطل ، والحكمةُ تقتضي معاملة المحسن بالإِحسان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء ملائكته لأهل الإيمان به من عبادة، تقول:"يا رَبّنا وأدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ" يعني: بساتين إقامة "التي وَعَدْتَهُمْ "يعني التي وعدت أهل الإنابة إلى طاعتك أن تدخلهموها، "وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأزْوَاجِهِمْ وَذُرّياتِهِمْ" يقول: وأدخل مع هؤلاء الذين تابوا واتّبَعُوا سَبِيلَكَ جنات عدن من صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم، فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا، وذكر أنه يدخل مع الرجل أبواه وولده وزوجته الجنة، وإن لم يكونوا عملوا عمله بفضل رحمة الله إياه...
"إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" يقول: إنك أنت يا ربنا العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} هذا يخرّج على وجوه:
أحدها: أن الوعد كان منه لجملة المؤمنين، فسألوه أن يدخل قوما على الإشارة والتعيين في جملة ذلك الوعد لاحتمال خصوص في الجملة.
والثاني: سألوه أن يُنبئهم عن الأسباب والأعمال التي يستوجبون ذلك.
والثالث: يجوز أن يكون الوعد لهم بالشرط الذي سألوه، والله تعالى عالم في الأزل أنه يوجد ذلك الشرط، وهو سؤالهم، فيكون لهم ذلك الوعد، ومثل ذلك جائز...
والله تعالى عالم بالعواقب، فمتى علّق بشرط كان ذلك منه في الأزل حكما على أن يوجد مع ذلك الشرط مع علمه أنه لو لم يكن ذلك الشرط كيف كان؟
أما ظاهر الآية أنه إذا وعدها لهم أدخلهم لا محالة فيها، فلا معنى للسؤال في ذلك لما يخرّج السؤال في مثله مخرج السؤال في تصديق الوعد والامتناع عن الخُلف. ولكن الآية تخرّج على الوجوه التي ذكرنا.
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية سألوه أيضا إدخال هؤلاء في ذلك الوعد أيضا على ما ذكرنا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
اجمع بينهم وبينهم، لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة، كما قال
[تعالى] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] أي: ساوينا بين الكل في المنزلة، لتقر أعينهم، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني، بل رفعنا الناقص في العمل، فساويناه بكثير العمل، تفضلا منا ومنة...
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: الذي لا يمانع ولا يغالب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أقوالك وأفعالك، من شرعك وقدرك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت النجاة من العذاب لا تستلزم الثواب، قالوا مكررين صفة الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتوفيق أحبابنا الذين لذذونا بالمشاركة في عبادك بالجنان واللسان والأركان.
{وأدخلهم جنات عدن} أي إقامة لا عناد فيها.
ولما كانوا عالمين بأن سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقبح منه شيء، نبهوا على ذلك بقولهم: {التي وعدتهم} مع الزيادة في التملق واللطافة في الحث وإدخالهم لأجل استعمالك إياهم الصالحات.
ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال: {ومن صلح من آبائهم}.
ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا: {وأزواجهم وذرياتهم}.
ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره، ومن ذلك تسميتهم العزى: {إنك أنت} أي وحدك {العزيز} فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن.
{الحكيم} فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
دخول الجنة نعيم وفوز. يضاف إليه صحبة من صلح من الآباء والأزواج والذريات وهي نعيم آخر مستقل. ثم هي مظهر من مظاهر الوحدة بين المؤمنين أجمعين. فعند عقدة الإيمان يلتقي الآباء والأبناء والأزواج، ولولا هذه العقدة لتقطعت بينهم الأسباب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إعادة النداء في خلال جمل الدعاء اعتراض للتأكيد بزيادة التضرع، وهذا ارتقاء من طلب وقايتهم العذاب إلى طلب إدخالهم مكان النعيم.
والعَدْن: الإِقامة، أي الخلود، والدعاء لهم بذلك مع تحققهم أنهم موعودون به تأدُب مع الله تعالى؛ لأنه لا يُسأل عما يفعل.
{ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} يجوز أن يكون المراد بقولهم: {وأدخلهم} عَجِّل لهم بالدخول، ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لقولهم: {وَمَن صَلَح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم} فإن أولئك لم يكونوا موعودين به صريحاً.
وجملة {إنَّك أنت العَزِيز الحَكِيم} اعتراض بين الدعوات استقصاء للرغبة في الإِجابة بداعي محبة الملائكة لأهل الصلاح؛ لما بين نفوسهم والنفوس الملكية من التناسب، واقتران هذه الجملة بحرف التأكيد للاهتمام بها.
(إنَّ) في مثل هذا المقام تُغني غَناء فاء السببية، أي فعزتُك وحكمتك هما اللتان جَرَّأَتَانَا على سؤال ذلك من جلالك، فالعزة تقتضي الاستغناء عن الانتفاع بالأشياء النفيسة فلما وَعد الصالحين الجنة لم يكن لله ما يضنه بذلك فلا يصدر منه مطل والحكمةُ تقتضي معاملة المحسن بالإِحسان...
معنى {جَنَّاتِ عَدْنٍ..} أي: إقامة دائمة.
وتأمل ثمرة الإيمان بالله، ثمرة لا إله إلا الله، فلا يضر مع الإيمان معصية، فالملائكة في أعلى عليين يذكرونك وينشغلون بك أيها المؤمن، ويدعون لك لأنك آمنتَ بالله، وهذه تسلية لسيدنا رسول الله ولأمته الذين تحمَّلوا مشاقّ الدعوة ومَنْ تبعهم إلى يوم الدين.
فيا محمد إن كان كفار مكة قد وقفوا منك ومن أتباعك هذا الموقف المعاند فلا تحزن، ويكفيك وأمتك أنْ تستغفر لك الملائكة، وأيّ ملائكة؟ حملة العرش والذين يحيطون به.
وحين تقرأ هذا الدعاء من الملائكة تجد فيه إشارات ووقفات تستحق التأمل أولها أنك أيها المؤمن مذكورٌ بين حملة العرش، وأنت موضع اهتمامهم مع دُنُوِّ منزلتك وعُلُوِّ منزلتهم، هؤلاء الملائكة لا عملَ لهم إلا أن يسبحوا بحمد ربهم ويستغفروا للذين آمنوا.
وتأمل في دعائهم مسألة التخلية ثم التحلية يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7] هذه هي التخلية أولاً من المؤلم، ثم تأتي التحلية بالنعمة التي تسرّ، وذلك في {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ..} [غافر: 8] لأن التخلية والنجاة من العذاب أوْلى من التنعم، والقاعدة أن دفع الضرر مقدم على جَلْب النفع، لذلك قال تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ..} [آل عمران: 185].
ثم إن دعاءهم لم يخص المؤمنين فحسب، إنما يشمل العائلة كلها {وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..} [غافر: 8] فذكروا الشجرة كلها، لأن الآباء يُسرُّون بوجودهم مع الأبناء فلم يقطع عليهم هذه النعمة...
ثم تُذيل الآية بقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يَقُلْ مثلاً: إنك أنت الغفور الرحيم لتناسب الدعاء المذكور في الآية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الأولى، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل، أمّا المجموعة الأُخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الأولى ولا في مقامها، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الأولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة...