اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (8)

قوله { رَبَّنَا } معمول لقول مضمر تقديره يقولون ربنا ، والقول المضمر في محل نصب على الحال من فاعل { يستغفرون } أو خبرٌ بعد خبر ، و{ رَحْمَةً وعِلْماً } تمييز منقول من الفاعلية أي وسع كل شيء رَحْمَتُكَ وعِلْمُكَ{[47936]} . واعلم أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ «الرب » ؛ لأن الملائكة قالوا في هذه الآية { ربنا } ، وقال آدمُ عليه الصلاة والسلام : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وقال نوحٌ : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } [ نوح : 5 ] وقال { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ نوح : 28 ] وقال إبراهيم : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] وقال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] وقال يوسفُ { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } [ يوسف : 101 ] وقال مُوسى عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] وقال : { ( رَبِّ ) إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } [ القصص : 16 ] وحكى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه استغفر ربه وخر راكعاً{[47937]} وقوله سلمانُ عليه الصلاة والسلام { رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } [ ص : 35 ] ، وحكى عن زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام أنه { نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }{[47938]} [ مريم : 3 ] وقال عيسى عليه الصلاة والسلام : { رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } [ المائدة : 114 ] وقال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } [ المؤمنون : 97 ] وحكى عن المؤمنين أنهم قالوا : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً . . . . } [ آل عمران : 191 ] .

فإن قيل : لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ الربِّ بالدعاء ؟

فالجواب : بأن العبد يقول : كنتُ في العدم المحض والنفي الصِّرْفِ فأخرجتَنِي إلى الوجود وربَّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تُخَلِّينِي طرفة عين عن تربيتك وإحسانك ( وفضلك ){[47939]} ، لإجابة دعائي .

فإن قيل : قوله ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فيه سؤال ، لأن العلم وسعَ كل شيء وأما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء ؛ لأن المضرورَ حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك في حقه رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] .

فالجواب : كل موجود فقد نال من رحمة الله نصيباً ؛ لأن الوجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله ( سبحانه ){[47940]} وتعالى . وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد حصل له نصيب من الرحمة فلهذا قال : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } هذه الآية دلت على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات .

قوله : { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } دينك { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } .

فإن قيل : لا معنى للغُفْران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا فلا فرق بين قوله { فاغْفِرْ لَهُمْ } وبين قوله { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } .

فالجواب : قولهم : فاغفر فيه رمز وإشارة لإسقاط العذاب ، فلهذا أردفوه بذكره على سبيل التصريح تأكيداً ومبالغة .

واعلم أنهم لما طلوا من الله إزالة العذاب ( عنهم ){[47941]} أردفوه بطلب إيصال الثواب إليهم فقالوا : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } .

فإن قيل : أنتم زعمتم أن الشفاعة إنما جعلت{[47942]} للمذنبين وهو الآية تُبْطِلُ ذَلِك ، لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم جنات عَدْن .

فالجواب : ( لا نسلم أنه ){[47943]} ما وَعَدَهُمْ بذلك ، لأن الدلائل الكثيرة دلت على أنه لا يخلد أهل «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » في النار ، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعد من الله بأن يدخلهم جنات عدن إما من غير دخول النار ، وإما بعد أن يدخلهم النار .

قوله : { وَمَنْ صَلَحَ } في محل نصب إما عطفاً على مفعول { أَدْخِلْهُمْ } وإما على مفعول { وَعَدتَهُمْ } وقال الفراءُ{[47944]} والزجاج{[47945]} نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في { أَدْخِلْهُمْ } : وإن شئت على الضمير في { وَعَدتَهُم } . والعامة على فتح لام { صَلَحَ } يقال : صَلَحَ فهو صَالِحٌ ، وابنُ أبي عبلة بضمها{[47946]} ، يقال : صَلُحَ فَهُو صَلِيحٌ . والعامة على { ذرِّيّاتهم } جمعاً ، وعيسى { ذُرِّيَّتهم }{[47947]} إفراداً . والمراد بقوله ومن صلح من أهل الإيمان .

ثم قالوا { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } . وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين ، لأنه لو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة .


[47936]:قال بهذا الإعراب الإمام السمين في الدر المصون 4/677 وأبو البقاء في التبيان 1115، 1116.
[47937]:قال: {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص: 24].
[47938]:قال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم: 3].
[47939]:تكملة من الرازي عن النسختين.
[47940]:سقط من ب وانظر في هذا كله تفسير الإمام فخر الدين الرازي 27/34، 35.
[47941]:سقط من ب.
[47942]:في ب بدل جعلت حصلت.
[47943]:ما بين القوسين زيادة من ب.
[47944]:قال في معاني الفراء له 3/5: "من نصب من مكانين إن شئت جعلت "ومن" مردودة على الهاء والميم في "وأدخلهم" وإن شئت على الياء والميم في وعدتهم".
[47945]:وقال الزجاج في معانيه 4/368: "من في موضع نصب عطف على الياء والميم في قوله: "ربنا وأدخلهم جنات عدن" أي وأدخل من أصلح، ويصلح أن يكون عطفا على الهاء والميم في قوله "وعدتهم" فيكون المعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم".
[47946]:قراءة شاذ ذكرها البحر المحيط 7/425 والزمخشري في الكشاف 3/417 والسمين في الدر 4/678.
[47947]:المراجع السابقة.