{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي : تجري بنوح ومن آمن معه ، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله ، وحفظ [ منه ] لها عن الغرق [ ونظر ] ، وكلائه منه تعالى ، وهو نعم الحافظ الوكيل ، { جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } أي : فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام ، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم ، واستمر على أمر الله ، فلم يرده عنه راد ، ولا صده عنه{[930]} صاد ، كما قال [ تعالى ] عنه في الآية الأخرى : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ } الآية .
ويحتمل أن المراد : أنا أهلكنا قوم نوح ، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي ، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم ، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف
وقوله : تَجْرِي بأعْيُنِنا يقول جلّ ثناؤه : تجري السفينة التي حملنا نوحا فيها بمرأى منا ومنظر . وذُكر عن سفيان في تأويل ذلك ما :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، في قوله : تَجْرِي بأعْيُنِنا يقول : بأمرنا جَزاءً لِمنْ كَان كُفِر .
اختلف أهل التأويل في تأويله : فقال بعضهم : تأويله فعلنا ذلك ثوابا لمن كان كُفر فيه ، بمعنى : كفر بالله فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قال : كَفَر بالله .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد جَزَاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قال : لمن كان كفر فيه .
ووجه آخرون معنى «مَنْ » إلى معنى «ما » في هذا الموضع ، وقالوا : معنى الكلام : جزاء لما كان كَفَر من أيادي الله ونَعمه عند الذين أهلكهم وغرّقهم من قوم نوح . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : جَزَاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قال : لمن كان كفر نعم الله ، وكفر بأياديه وآلائه ورسله وكتبه ، فإن ذلك جزاء له .
والصواب من القول من ذلك عندي ما قاله مجاهد ، وهو أن معناه : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ، وفجّرنا الأرض عيونا ، فغرّقنا قوم نوح ، ونجينا نوحا عقابا من الله وثوابا للذي جُحِد وكُفِر ، لأن معنى الكفر : الجحود ، والذي جحد ألوهته ووحدانتيه قوم نوح ، فقال بعضهم لبعض : لا تَذرُنّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُونّ وَدّا ولا سُواعا ولاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ ونَسْرا ، ومن ذهب به إلى هذا التأويل ، كانت من الله ، كأنه قيل : عوقبوا لله ولكفرهم به . ولو وَجّه مَوَجّه إلى أنها مراد بها نوح والمؤمنون به كان مذهبا ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ ، فعلنا ذلك جزاء لنوح ولمن كان معه في الفلك ، كأنه قيل : غرقناهم لنوح ولصنيعهم بنوح ما صنعوا من كفرهم به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تجري بأعيننا} يقول: تجري السفينة في الماء بعين الماء بعين الله تعال، فأغرق الله قوم نوح، فذلك الغرق {جزاء لمن كان كفر} يعني نوحا المكفور به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"تَجْرِي بأعْيُنِنا "يقول جلّ ثناؤه: تجري السفينة التي حملنا نوحا فيها بمرأى منا ومنظر... عن سفيان، في قوله: "تَجْرِي بأعْيُنِنا" يقول: بأمرنا...
"جَزاءً لِمنْ كَان كُفِر"؛ اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: تأويله فعلنا ذلك ثوابا لمن كان كُفر فيه، بمعنى: كفَر بالله فيه...
ووجه آخرون معنى «مَنْ» إلى معنى «ما» في هذا الموضع، وقالوا: معنى الكلام: جزاء لما كان كَفَر من أيادي الله ونعمه عند الذين أهلكهم وغرّقهم من قوم نوح...
والصواب من القول من ذلك عندي... هو أن معناه: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجّرنا الأرض عيونا، فغرّقنا قوم نوح، ونجينا نوحا عقابا من الله وثوابا للذي جَحَد وكَفَر، لأن معنى الكفر: الجحود، والذي جحد ألوهته ووحدانتيه قوم نوح، فقال بعضهم لبعض: "لا تَذرُنّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُونّ وَدّا ولا سُواعا ولاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ ونَسْرا"، ومن ذهب به إلى هذا التأويل، كانت من الله، كأنه قيل: عوقبوا لله ولكفرهم به. ولو وَجّه مَوَجّه إلى أنها مراد بها نوح والمؤمنون به كان مذهبا، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: فعلنا ذلك جزاء لنوح ولمن كان معه في الفلك، كأنه قيل: غرقناهم لنوح ولصنيعهم بنوح ما صنعوا من كفرهم به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تجري بأعيننا} أي بتقديرنا وبحفظنا...
{جزاء لمن كان كُفِر} أي حمل نوحا وأتباعه في السفينة، ونجّاهم من الغرق جزاء ما كفر به قومه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{جَزآءً} مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أي فعلنا ذلك جزاء، {لّمَن كَانَ كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفوراً لأنّ النبي نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة.
ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل:
المسألة الأولى: قال في السماء: {ففتحنا أبواب السماء} لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور، ولم يقل: وشققنا السماء، وقال في الأرض: {وفجرنا الأرض} لأنها ذات الصدع.
الثانية: لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحارا وأنهارا، بل قال: {عيونا} والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها، فقال: {وفجرنا الأرض} لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة هاهنا ما حصل بالسعة هاهنا.
الثالثة: ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون، وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى: {على أمر قد قدر} أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحا بقوله تعالى: {وحملناه} وأشار إلى طريق النجاة بقوله: {ذات ألواح} وكذلك قال في موضع آخر: فأخذهم الطوفان، ولم يقل فأهلكوا، وقال فأنجيناه وأصحاب السفينة فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال صلى الله عليه وسلم: {يا بني اركب معنا} وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقا وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحا.
الرابعة: قوله تعالى: {تجري بأعيننا} أبلغ من حفظنا، يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلبا للمبالغة.
الخامسة: {بأعيننا} يحتمل أن يكون المراد بحفظنا، ولهذا يقال: الرؤية لسان العين.
السادسة: قال: كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم، وأما جزاء شكره لنا فباق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو جزاء يمسح بالرعاية على الجفاء، وبالتكريم على الاستهزاء. ويصور مدى القوة التي يملك رصيدها من يغلب في سبيل الله. ومن يبذل طاقته، ثم يعود إليه يسلم له أمره وأمر الدعوة ويدع له أن ينتصر!.. إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته. والله من ورائها بجبروته وقدرته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجمع العين لتقوية المعنى لأن الجمع أقوى من المفرد، أي بحراسات منّا وعنايات، ويجوز أن يكون الجمع باعتبار أنواع العنايات بتنوع آثارها. و {من كان كُفِر} هو نوح فإن قومه كَفَروا به، أي لم يؤمنوا بأنه رسول وكان كفرهم به منذ جاءهم بالرسالة فلذلك أقحم هنا فعل {كان}، أي لمن كُفِر منذ زمان مضى وذلك ما حكي في سورة نوح (5 9) بقوله: {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} إلى قوله: {ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إنِّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً} وحذف متعلق كفر لدلالة الكلام عليه. وتقديره: كفر به، أو لأنه نصح لهم ولقي في ذلك أشد العناء فلم يشكروا له بل كفروه فهو مكفور فيكون من باب قوله تعالى: {ولا تكفرون} [البقرة: 152].