مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَجۡرِي بِأَعۡيُنِنَا جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ} (14)

وقوله تعالى : { تجري } أي سفينة ذات ألواح جارية ، وقوله تعالى : { بأعيننا } أي بمرأى منا أو بحفظنا ، لأن العين آلة ذلك فتستعمل فيه .

وقوله تعالى : { جزاء لمن كان كفر } يحتمل وجوها ( أحدها ) : أن يكون نصبه بقوله : { حملناه } أي حملناه جزاء ، أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم و( ثانيها ) : أن يكون بقوله : { تجري بأعيننا } لأن فيه معنى حفظنا ، أي ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له ( ثالثها ) : أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال : فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيونا وحملناه ، وكل ذلك فعلناه جزاء له ، وإنما ذكرنا هذا ، لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم ، فوجب أن يكون جزاء منصوبا بكونه مفعولا له بهذه الأفعال ، ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل :

المسألة الأولى : قال في السماء : { ففتحنا أبواب السماء } لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور ، ولم يقل : وشققنا السماء ، وقال في الأرض : { وفجرنا الأرض } لأنها ذات الصدع .

الثانية : لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة ، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحارا وأنهارا ، بل قال : { عيونا } والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها ، فقال : { وفجرنا الأرض } لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة هاهنا ما حصل بالسعة هاهنا .

الثالثة : ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون ، وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى : { على أمر قد قدر } أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحا بقوله تعالى : { وحملناه } وأشار إلى طريق النجاة بقوله : { ذات ألواح } وكذلك قال في موضع آخر : فأخذهم الطوفان ، ولم يقل فأهلكوا ، وقال فأنجيناه وأصحاب السفينة فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال صلى الله عليه وسلم : { يا بني اركب معنا } وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقا وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحا .

الرابعة : قوله تعالى : { تجري بأعيننا } أبلغ من حفظنا ، يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلبا للمبالغة .

الخامسة : { بأعيننا } يحتمل أن يكون المراد بحفظنا ، ولهذا يقال : الرؤية لسان العين .

السادسة : قال : كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم ، وأما جزاء شكره لنا فباق ، وقرئ : { جزاء } بكسر الجيم أي مجازاة كقتال ومقاتلة وقرئ : { لمن كان كفر } بفتح الكاف ، وأما : { كفر } ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال شكرته وشكرت له ، قال تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } وقال تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله } . ( ثانيهما ) : أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ويحتمل أن يقال : كفر به وترك الظهور المراد .