فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها ، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها ، فلهذا قالت لها الملائكة : { يا مريم اقنتي لربك }
{ اقنتي لربك } القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع ، { واسجدي واركعي مع الراكعين } خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله ، ففعلت مريم ، ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة .
ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها ، لما يريد الله
[ تعالى ]{[5016]} بها من الأمر الذي قدره وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدًا من غير أب ، فقال تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع{[5017]} كما قال تعالى : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }{[5018]} [ البقرة : 116 ] .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ " . ورواه ابن جرير من حديث{[5019]} ابن لهيعة ، عن دَرّاج ، به ، وفيه نكارة{[5020]}
وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو : طول الركوع{[5021]} في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : كوني منهم .
وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها ، رضي الله عنها .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي - وفيه مقال - : حدثنا علي بن بحر بن بَرّي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي } قال : سَجَدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها{[5022]} {[5023]} .
وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن شَوْذَب قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة .
{ يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله خبرا عن قيل ملائكته لمريم : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكَ } أخلصي الطاعة لربك وحده . وقد دللنا على معنى القنوت بشواهده فيما مضى قبل .
واختلاف بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع نحو اختلافهم فيه هنالك ، وسنذكر قول بعضهم أيضا في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى «اقنتي » : أطيلي الركود . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركود ، يعني : القنوت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : قال مجاهد : أطيلي الركود في الصلاة ، يعني : القنوت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لما قيل لها : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قامت حتى ورم كعباها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لما قيل لها : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قامت حتى ورمت قدماها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن مجاهد : { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركود .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : القنوت : الركود ، يقول : قومي لربك في الصلاة ، يقول : اركدي لربك ، أي انتصبي له في الصلاة ، واسجدي واركعي مع الراكعين .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : كانت تصلي حتى تورم قدماها .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا الأوزاعي : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها .
وقال آخرون : معناه : أخلصي لربك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أخلصي لربك .
وقال آخرون : معناه : أطيعي ربك . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيعي ربك .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { اقْنُتِي لِرَبكِ } أطيعي ربك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «كُلّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ مِنَ القُرْآنِ ، فَهُوَ طاعَةٌ لِلّهِ » .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : يقول : اعبدي ربك .
قال أبو جعفر : وقد بينا أيضا معنى الركوع والسجود بالأدلة الدالة على صحته ، وأنهما بمعنى الخشوع لله والخضوع له بالطاعة والعبودية .
فتأويل الاَية إذا : يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا ، واخشعي لطاعته وعبادته ، مع من خشع له من خلقه ، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتّطهير من الأدناس والتفضيل على نساء عالم دهرك .
{ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها ، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب ، أو ليقترن اركعي بالراكعين للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين . وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعة كقوله تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } وبالسجود الصلاة كقوله تعالى : { وأدبار السجود } وبالركوع الخشوع والإخبات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.