ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } أي : بنوح ، ومن ركب معه { فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } والله حافظها وحافظ أهلها { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } لما ركب ، ليركب معه { وَكَانَ } ابنه { فِي مَعْزِلٍ } عنهم ، حين ركبوا ، أي : مبتعدا وأراد منه ، أن يقرب ليركب ، فقال له : { يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } فيصيبك ما يصيبهم .
ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب : مشهد الطوفان :
( وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، قال : سآوى إلى جبل يعصمني من الماء . قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) . .
إن الهول هنا هولان . هول في الطبيعة الصامتة ، وهول في النفس البشرية يلتقيان :
( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) . .
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة ، ويروح يهتف بالولد الشارد :
وقوله تعالى : { وهي تجري بهم } الآية ، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطر فيه ، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع ، فهكذا كان التقاء الماء ، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشرة ذراعاً ؛ وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق : ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأين كان الموج كالجبال على هذا ؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا ؟ .
وقرأت فرقة : «ابنه » على إضافة الابن إلى نوح ، وهذا قول من يقول : هو ابنه لصلبه ، وقد قال قوم : إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حناناً منه وتلطفاً ، وقرأ ابن عباس «ابنهْ » بسكون الهاء ، وهذا على لغة لأزد السراة{[6349]} ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . *** ومطواي مشتاقان لهْ أرقانِ{[6350]}
وقرأ السدي «ابناه » قال أبو الفتح : ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية ، وقرأ عروة بن الزبير أيضاً وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنهَ » على تقدير ابنها ، فحذف الألف تخفيفاً وهي لغة ومنها قول الشاعر : [ البسيط ]
أما تقود به شاة فتأكلها*** أو أن تبيعه في نقض الأراكيب{[6351]}
فلست بمدرك ما فات مني*** بلهف ولا بليت ولا لواني{[6352]}
قال القاضي أبو محمد : وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف وليس كما قال .
وقرأ وكيع بن الجراح : «ونادى نوح ابنه » بضم التنوين ، قال أبو حاتم : وهي لغة سوء لا تعرف .
وقوله : { في معزل } أي في ناحية ، فيمكن أن يريد في معزل في الدين ، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة ، واللفظ يعمهما : وقال مكي في المشكل : ومن قال : «معزِل » - بكسر الزاي - أراد الموضع ، ومن قال : «معزَل » - بفتحها - أراد المصدر : فلم يصرح بأنها قراءة ولكن يقتضي ذلك لفظه .
وقرأ السبعة «يابنيِّ » بكسر الياء المشددة ، وهي ثلاث ياءات : أولاها ياء التصغير ، وحقها السكون ؛ والثانية لام الفعل ، وحقها أن تكسر بحسب ياء الإضافة إذ ما قبل ياء الإضافة مكسور : والثالثة : ياء الإضافة فحذفت ياء الإضافة إما لسكونها وسكون الراء{[6353]} ، وإما إذ هي بمثابة التنوين في الإعلام وهو يحذف في النداء فكذلك ياء الإضافة والحذف فيها كثير في كلام العرب ، تقول : يا غلام ، ويا عبيد ، وتبقى الكسرة دالة ، ثم أدغمت الياء الساكنة في الياء المكسورة ، وقد روى أبو بكر وحفص عن عاصم أيضاً «يابنيَّ » بفتح الياء المشددة ، وذكر أبو حاتم : أن المفضل رواها عن عاصم ، ولذلك وجهان : أحدهما : أن يبدل من ياء الإضافة ألفاً وهي لغة مشهورة تقول : يا غلاما ، ويا عينا ، فانفتحت الياء قبل الألف ثم حذفت الألف استخفافاً{[6354]} ولسكونها وسكون الراء من قوله { اركب } .
والوجه الثاني : أن الياءات لما اجتمعت استثقل اجتماع المماثلة{[6355]} فخفف ذلك الاستثقال بالفتح إذ هو أخف الحركات ، هذا مذهب سيبويه ، وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم : «وحواري الزبير »{[6356]} .
وروي عن ابن كثير أنه قرأ في سورة لقمان : { يا بني لا تشرك بالله }{[6357]} بحذف ياء الإضافة ويسكن الياء خفيفة ، وقرأ الثانية { يا بني إنها }{[6358]} كقراءة الجماعة وقرأ الثالثة : { يا بني أقم }{[6359]} ساكنة كالأولى .
وقوله : { ولا تكن مع الكافرين } يحتمل أن يكون نهياً محضاً مع علمه أنه كافر ، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره فناداه ألا يبقى - وهو مؤمن - مع الكفرة فيهلك بهلاكهم ، والأول أبين .
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال }
جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر ( مجراها ) إتماماً للفائدة وصفاً لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيْسير نجاتهم .
وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم وتحقيقه .
وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .
والموج : ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه ، وتشبيهه بالجبال في ضخامته . وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماءَ السابقَ لها ، فإن حادث الطوفان ما كان إلاّ عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها ، كما سيأتي .
{ ونادى نوح ابنه وكان بمعزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين }
عطفت جملة { ونادى } على أعلق الجمل بها اتّصالاً وهي { وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال ، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة .
وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زَوج ثانية لنوح كان اسمها ( وَاعلة ) غرقت ، وأنّها المذكورة في آخر سورة التحريم . قيل كان اسم ابنه ( ياماً ) وقيل اسمه ( كنعان ) وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين . وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزباً .
وجملة { وكان في معزل } حال من { ابنه } . والمعْزل : مكان العزلة أي الانفراد ، أي في معزل عن المؤمنين إمّا لأنه كان لم يؤمن بنوح عليه السلام فلم يصدق بوقوع الطوفان ، وإما لأنّه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول .
وجملة { يا بنيّ اركب معنَا } بيان لجملة { نادى } وهي إرشاد له ورفق به .
وأما جملة { ولا تكن مع الكافرين } فهي معطوفة على جملة { اركب معنا } لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلاّ أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان . فقول نوح عليه السّلام له { اركب معنا } كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير . وقد زاد ابنَه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قولُه متهكماً { سَآوي إلى جبل يعصمني من الماء } .
و ( بنيّ ) تصغير ( ابن ) مضافاً إلى ياء المتكلم . وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة . فأصله بُنَيْو ، لأنّ أصل ابن بَنْو ، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقصَ عن ثلاثة أحرف فعوّضوه همزة وصل في أوله ، ومهما عادتْ له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل ، ثم لمّا أريد إضافة المصغّر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بُنَيْوِيّ ، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنَيّي بياءين في آخره أولاهما مشدّدة ، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبْقاء الكسرة صار { بنَيّ } بكسر الياء مشدّدة في قراءة الجمهور .
وقرأه عاصم { بنيّ } بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء ، أصله يَا بنَيّيَ بياءين أولاهما مكسورة مشدّدة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل} كان معتزلا عنه، {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} فتغرق معهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ": والفلك تجري بنوح ومن معه فيها "فِي مَوْجٍ كالجبالِ وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وكانَ فِي مَعْزِلٍ عنه "لم يركب معه الفلك: "يا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنا الفلك وَلا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) هذا يدل على ما ذكرنا أنها كانت بالله تجري، وبه ترسو حيث لم يخافوا الغرق مع ما كان من الأمواج. وأما سائر السفن فإن أهلها خافوا من أمواجها لما كانوا هم الذين يتولون، ويتكلفون إجراءها ووقوفها، والله أعلم.
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) هذا يدل على أنها كانت آية لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها. فإذا أخبر أنها تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير آية لهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى عن حال السفينة بعد الغرق أنها كانت تجري على الماء في أمواج كالجبال. والجري: مر سريع كمر الماء على وجه الارض... والموج جمع موجة، وهي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء الكثير، ومنه أمواج البحر وأعظم ما يكون إذا اشتدت به الريح، وشبه الله تعالى الأمواج بالجبال في عظمها، والجبل: جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد في عظمه... وقوله "ونادى نوح ابنه وكان في معزل "فالمعزل: موضع منقطع عن غيره. وكان ابن نوح في ناحية منقطعة عنه حين ناداه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حينما نطق بِلسانِ الشفقةِ وقال: {يَابُنَيَ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} -لم يقل له: ولا تكن من الكافرين؛ لأن حالته كانت مُلْتَبِسةُ على نوح إذ كان ابنُه ينافقه- فقيل له: يا نوح إنه مع الكافرين لأنه في سابق حُكْمِنا من الكافرين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم الله، {وَهِي تَجْرِى بِهِمْ} أي تجري وهم فيها. {فِي مَوْجٍ كالجبال} يريد موج الطوفان، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها...
والمعزل:... من عزله عنه إذا نحاه وأبعده، يعني وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين...
اعلم أن قوله: {وهى تجرى بهم في موج كالجبال} مسائل:
المسألة الثانية: الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة، فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة، والمقصود منه: بيان شدة الهول والفزع.
المسألة الثالثة: الجريان في الموج، هو أن تجري السفينة داخل الموج، وذلك يوجب الغرق، فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب، شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج...
واعلم أن قوله: {وكان في معزل} لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوها:
الأول: أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق:
الثاني: أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه.
الثالث: أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون: بسم الله {وهي} أي والحال أنها {تجري بهم}. ولما كان الماء مهيئاً للإغراق، فكان السير على ظهره من الخوارق، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال: {في موج} ونبه على علوه بقوله: {كالجبال} أي في عظمه وتراكمه وارتفاعه، فالجملة حال من فركبوها، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ، وكان هذه الحال مع أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى سرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ... ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيوناً وانهمار السماء انهماراً -مرشداً إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السبب الذي أقامه سبحانه، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفاً على قوله {وقال اركبوا} {ونادى نوح ابنه}... {وكان} أي الإبن {في معزل} أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافراً، وبين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله: {يا بني} صغَّره تحنناً وتعطفاً {اركب} كائناً {معنا} أي في السفينة لتكون من الناجين {ولا تكن} أي بوجه من الوجوه {مع الكافرين} أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام وشفقتهم- وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة -ليست سبباً للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله {يا بني} مذكراً له بالبنوة مع تصغير التحنن والتراؤف، وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول: يا أبت، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلاً من العلم وتعسف الشبهة بدلاً من الحجة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهي تجري بهم في موج كالجبال} هذا تصوير لحالها في جريها بهم كأنها حاضرة أمام القارئ أو السامع، أي تجري في أثناء موج يشبه الجبال في علوه وارتفاعه وامتداده، وهو ما يحدث في ظاهر البحر عند اضطرابه من التموج والارتفاع بفعل الرياح، واحده موجة وجمعه أمواج: وأصل الموج الاضطراب ومنه {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} [الكهف: 99] ومن عرف ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج عندما تهيجها الرياح الشديدة، رأى أن المبالغة في هذا التشبيه غير بعيدة، وصف لي بعضهم سفره في المحيط الهندي في زمن رياح الصيف التي يسمونها الموسمية بما معناه: كنت أرى السفينة تهبط بنا في غور عميق، كواد سحيق، نرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها، فإذا بها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها في شاهق جبل تريد أن تنقض منه، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها، لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها، وراجع وصف البحر في تفسير قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} [يونس: 22].
{ونادى نوح ابنه} عند الركوب في السفينة وقبل جريانها ولم يسبق له ذكر وسيأتي بقية خبره في آخر القصة {وكان في معزل} أي مكان عزلة وانفراد دون أهله الذين ركبوا فيها ودون الكفار {يا بني اركب معنا} أي مع والدك وأهلك الناجين {ولا تكن مع الكافرين} المقضي عليهم بالهلاك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الهول هنا هولان: هول في الطبيعة الصامتة، وهول في النفس البشرية يلتقيان: (وهي تجري بهم في موج كالجبال).. وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة، ويروح يهتف بالولد الشارد: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الموج: ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه، وتشبيهه بالجبال في ضخامته. وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماءَ السابقَ لها، فإن حادث الطوفان ما كان إلاّ عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها، كما سيأتي. {ونادى نوح ابنه وكان بمعزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} عطفت جملة {ونادى} على أعلق الجمل بها اتّصالاً وهي {وقال اركبوا فيها} [هود: 41] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة... وجملة {يا بنيّ اركب معنَا} بيان لجملة {نادى} وهي إرشاد له ورفق به. وأما جملة {ولا تكن مع الكافرين} فهي معطوفة على جملة {اركب معنا} لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلاّ أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان. فقول نوح عليه السّلام له {اركب معنا} كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير. وقد زاد ابنَه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قولُه متهكماً {سَآوي إلى جبل يعصمني من الماء}. و (بنيّ) تصغير (ابن) مضافاً إلى ياء المتكلم. وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أباً فحسب، بل كان مربيّاً لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن للأسف كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه...