{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا } عنادا وتكذيبا ، وتعجيزا لربهم . { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون ، لإيمانهم بها ، وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالأعمال ، وخوفهم ، لمعرفتهم بربهم ، أن لا تكون أعمالهم منجية لهم ولا مسعدة ، ولهذا قال : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه { أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ } أي : بعد ما امتروا فيها ، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد ، أي : معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب ، بل في غاية البعد عن الحق ، وأيُّ بعد أبعد ممن كذب بالدار التي هي الدار على الحقيقة ، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد ، وهي دار الجزاء التي يظهر الله فيها عدله وفضله وإنما هذه الدار بالنسبة إليها ، كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها ، وهي دار عبور وممر ، لا محل استقرار .
فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية ، حيث رأوها وشاهدوها ، وكذبوا بالدار الآخرة ، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية ، والرسل الكرام وأتباعهم ، الذين هم أكمل الخلق عقولا ، وأغزرهم علما ، وأعظمهم فطنة وفهما .
ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين :
( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ) . .
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها ، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها ؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين . لأنهم محجوبون لا يدركون . وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها ، ومن ثم هم يشفقون ويخافون ، وينتظرونها بوجل وخشية ، وهم يعرفون ما هي حين تكون .
وإنها لحق . وإنهم ليعلمون أنها الحق . وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون .
( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) . .
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا ، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد . .
وقوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } أي : يقولون : { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ سبأ : 29 ] ، وإنما يقولون{[25802]} ذلك تكذيبا واستبعادا ، وكفرا وعنادا ، { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون وجلون من وقوعها { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } أي : كائنة لا محالة ، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها .
وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر ، في الصحاح والحسان ، والسنن والمسانيد ، وفي بعض ألفاظه ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال : يا محمد . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته " هاؤم " . فقال : متى الساعة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك ، إنها كائنة ، فما أعددت لها ؟ " فقال : حُب الله ورسوله . فقال : " أنت مع من أحببت{[25803]} .
فقوله في الحديث : " المرء مع من أحب " ، هذا متواتر لا محالة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة ، بل أمره بالاستعداد لها .
وقوله : { أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ } أي : يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها ، { لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي : في جهل بين ؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أنها الحق } .
يجوز أن تكون جملة { يستعجل بها } إلى آخرها حالاً من { الساعة } [ الشورى : 17 ] . ويجوز أن تكون بياناً لجملة { وما يدريك لعل الساعة قريب } [ الشورى : 17 ] لما تضمنته من التنبيه والتهيئة بالنسبة إلى فريقي المؤمنين بالسّاعة ، والذين لا يؤمنون بها ، فذكر فيها حال كلا الفرِيقين تجاه ذلك التنبيه . فأما المشركون فيتلقونه بالاستهزاء والتصميم على الجحد بها ، وهو المراد بقوله : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } ، والذين آمنوا بها يعملون لما به الفوز عندها ، ولذلك جيء عقبها بجملة { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } كما سيأتي .
والاستعجال : طلب التعجيل ، وتقدم في قوله تعالى : { استعجالهم بالخير } في سورة يونس ( 11 ) ، أي يطلب الذين لا يؤمنون بالسّاعة من النبي أن يعجّل الله بحلول السّاعة ليبين صدقه ، تهكماً واستهزاء وكناية عن اتخاذهم تأخرها دليلاً على عدم وقوعها ، وهم آيسون منها كما دلّ عليه قوله في مقابله { والذين آمنوا مشفقون منها } . وقد تكرر منهم هذا المعنى بأساليب ذكرت في تضاعيف آي القرآن كقوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ سبأ : 29 ] { وقالوا ربَّنا عَجِّلْ لنا قِطَّنَا قبل يوم الحساب } [ ص : 16 ] .
والإشفاق : رجاء وقوع ما يكره ، أي مشفقون من أهوالها ، وتقدم في قوله : { وهم من خشيته مشفقون } [ الأنبياء : 28 ] . وإنما جعل الإشفاق من ذات الساعة لإفادة تعظيم أهوالها حتى كأن أحوالها هي ذاتها ، على طريقة إسناد الحكم ونحوِه إلى الأعيان نحو { حُرِّمت عليكم الميتةُ } [ المائدة : 3 ] ، فهم يتوخون النجاة منها بالطاعة والتقوى ، أي فهم لا يستعجلون بها وإنما يغتنمون بقاءهم في الدّنيا للعمل الصالح والتوبة .
والمراد ب { الذين لا يؤمنون } : المشركون ، وعبر عنهم بالموصول لأن الصلة تدلّ على علة استعجالهم بها ، والمراد بالذين آمنوا : المسلمون فإن هذا لقب لهم ، ففي الكلام احتباك ، تقديره : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها .
وعُطفت على { مشفقون منها } جملةُ { ويعلمون أنها الحق } لإفادة أن إشفاقهم منها إشفاق عن يقين وجزم لا إشفاقٌ عن تردد وخشيَةِ أن يكشف الواقع على صدق الإخبار بها وأنه احتمال مساوٍ عندهم . وتعريف { الحق } في قوله : { أنّها الحق } تعريف الجنس وهو يفيد قصر المسند على المسند إليه قصر مبالغة لكمال الجنس في المسند إليه نحو : عنترةُ الشجاع ، أي يوقنون بأنها الحق كل الحق ، وذلك لظهور دلائل وقوعها حتى كأنه لا حق غيره .
{ أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَى الساعة لَفِى ضلال بعيد } .
الجملة تذييل لما قبلها بصريحها وكنايتها لأن صريحها إثبات الضلال للذين يكذِّبون بالساعة وكنايتها إثباتُ الهدى للذين يؤمنون بالساعة . وهذا التذييل فذلكة للجملة التي قبلها .
وافتتاح الجملة بحرف { أَلاَ } الذي هو للتنبيه لقصد العناية بالكلام .
والمُمَاراة : مفاعلة من المِرْية بكسر الميم وهي الشك . والمماراة : المُلاحَّة لإدخال الشك على المجادل ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فلا تمارِ فيهم } في سورة الكهف ( 22 ) .
وجُعل الضلال كالظرف لهم تشبيهاً لتلبسهم بالضلال بوقوع بالمظروف في ظرفه ، فحرف { في } للظرفية المجازية .
ووصف الضلال بالبعيد وصفٌ مجازي ، شُبه الكفر بضلال السائر في طريق وهو يكون أشد إذا كان الطريق بعيداً ، وذلك كناية عن عسر إرجاعه إلى المقصود .
والمعنى : لفي ضلال شديد ، وتقدم في قوله : { فَقَدْ ضَلَّ ضلالاً بعيداً } في سورة النساء ( 116 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يستعجل بها} بالساعة {الذين لا يؤمنون بها} يعني لا يصدقون بها... أنها كائنة؛ لأنهم لا يخافون ما فيها.
{والذين آمنوا مشفقون منها} يعني بلال وأصحابه، صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم بها، يعني بالساعة؛ لأنهم لا يدرون على ما يهجمون منها.
{ويعلمون أنها الحق} الساعة أنها كائنة. ثم ذكر الذين لا يؤمنون بالساعة، فقال: {ألا إن الذين يمارون في الساعة}.. يعني يشكون في القيامة، {لفي ضلال بعيد} يعني طويل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يَسْتَعْجِلُ بِهَا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها": يستعجلك يا محمد بمجيئها الذين لا يوقنون بمجيئها، ظناً منهم أنها غير جائية.
"وَالّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا": والذين صدّقوا بمجيئها، ووعد الله إياهم الحشر فيها مشفقون منها: وَجِلون من مجيئها، خائفون من قيامها؛ لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها.
"وَيَعْلَمُونَ أنّها الحَقّ": ويوقنون أن مجيئها الحقّ اليقين، لا يمترون في مجيئها.
"ألاَ إنّ الّذِينَ يُمارُونَ فِي السّاعَةِ": ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويجادلون فيه.
"لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ": لفي جَور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد، بعيد من الصواب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} كان استعجالهم بها استهزاءً منهم وتكذيبا لها أنها كائنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوعدهم بها، ويخبر أنها كائنة، فكانوا يستعجلون استعجال تكذيب لها.
{والذين آمنوا مُشفقون منها ويعلمون أنها الحق}؛ لأن لأهل الإيمان والتوحيد زلاّت ومساوئ، لم يتبين لهم التجاوز عنها والعفو عنها، فيكونون أبدا خائفين مُشفقين بتلك الزّلات والمساوئ وما يكون فيها من الأهوال والأفزاع.
ودلّ قوله: {لفي ضلال بعيد} أنهم لا يؤمنون أبدا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المؤمنون يؤمنِون بالبعث وما بعده من أحكام الآخرة، ويَكِلُون أمورَهم إلى الله؛ فلا يتمنون الموتَ حَذَرَ الابتلاء، ولكن إذا وَرَدَ الموتُ لم يكرهوه، وكانوا مستعدين له.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المماراة: الملاجة لأنّ كل واحد منهما يمري ما عند صاحبه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ثم استفتح الإخبار عن الممارين في الساعة بأنهم في ضلال قد بعد بهم، فرجوعهم عنه صعب متعذر.
{لفي ضلال بعيد} لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالا بعيدا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يستعجل بها} أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها...
{الذين لا يؤمنون بها} أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها؛ جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته...
ولما دل على جهل الكافرين، دل على أضدادهم فقال: {والذين آمنوا} وإن كانوا في أول درجات الإيمان {مشفقون} أي خائفون خوفاً عظيماً {منها} لأن الله هداهم بإيمانهم، فصارت صدورهم معادن المعارف، وقلوبهم منابع الأنوار، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{والذين ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي خائفون منها مع اعتناء بها؛ فإن الاشفاق عناية مختلطة بخوف، فإذا عدى بمن كما هنا، فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدى بعلى فمعنى العناية أظهر، وعنايتهم بها لتوقع الثواب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستعجال: طلب التعجيل، أي يطلب الذين لا يؤمنون بالسّاعة من النبي أن يعجّل الله بحلول السّاعة ليبين صدقه، تهكماً واستهزاء وكناية عن اتخاذهم تأخرها دليلاً على عدم وقوعها، وهم آيسون منها كما دلّ عليه قوله في مقابله {والذين آمنوا مشفقون منها}.
والإشفاق: رجاء وقوع ما يكره، أي مشفقون من أهوالها، وإنما جعل الإشفاق من ذات الساعة لإفادة تعظيم أهوالها حتى كأن أحوالها هي ذاتها، على طريقة إسناد الحكم ونحوِه إلى الأعيان نحو {حُرِّمت عليكم الميتةُ} [المائدة: 3]، فهم يتوخون النجاة منها بالطاعة والتقوى، أي فهم لا يستعجلون بها وإنما يغتنمون بقاءهم في الدّنيا للعمل الصالح والتوبة.
والمراد ب {الذين لا يؤمنون}: المشركون، وعبر عنهم بالموصول؛ لأن الصلة تدلّ على علة استعجالهم بها، والمراد بالذين آمنوا: المسلمون فإن هذا لقب لهم، ففي الكلام احتباك، تقديره: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها.
وعُطفت على {مشفقون منها} جملةُ {ويعلمون أنها الحق} لإفادة أن إشفاقهم منها إشفاق عن يقين وجزم لا إشفاقٌ عن تردد وخشيَةِ أن يكشف الواقع على صدق الإخبار بها، وأنه احتمال مساوٍ عندهم.
وتعريف {الحق} في قوله: {أنّها الحق} تعريف الجنس وهو يفيد قصر المسند على المسند إليه قصر مبالغة لكمال الجنس في المسند إليه نحو: عنترةُ الشجاع، أي يوقنون بأنها الحق كل الحق وذلك لظهور دلائل وقوعها حتى كأنه لا حق غيره.
{أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضلال بعيد} الجملة تذييل لما قبلها بصريحها وكنايتها؛ لأن صريحها إثبات الضلال للذين يكذِّبون بالساعة وكنايتها إثباتُ الهدى للذين يؤمنون بالساعة. وهذا التذييل فذلكة للجملة التي قبلها.
وافتتاح الجملة بحرف {أَلاَ} الذي هو للتنبيه لقصد العناية بالكلام.
والمُمَاراة: مفاعلة من المِرْية بكسر الميم وهي الشك. والمماراة: المُلاحَّة لإدخال الشك على المجادل.
وجُعل الضلال كالظرف لهم تشبيهاً لتلبسهم بالضلال بوقوع بالمظروف في ظرفه، فحرف {في} للظرفية المجازية.
ووصف الضلال بالبعيد وصفٌ مجازي، شُبه الكفر بضلال السائر في طريق وهو يكون أشد إذا كان الطريق بعيداً، وذلك كناية عن عسر إرجاعه إلى المقصود.
قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا..} أي: بالساعة {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا..} ولأنهم لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ولا يعرفون ما يحصل فيها يطلبونها من رسول الله، يقولون له: هَاتِ لنا هذه القيامة نريد أنْ نراها، هذا على وجه الاستهزاء بها، ولو علموا شيئاً عن أهوالها ما تجرَّأوا على طلبها وما تهكَّموا بها. هذا حال غير المصدِّقين بيوم القيامة.
أما المؤمنون بها فلهم شأن آخر {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا..} خائفون من أهوالها لما يعلمونه من صدقها ودقة الحساب فيها وشدة كربها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ..} ولم يقُلْ حق إنما قال (الحق) يعني: هي الحق بعينه، فلا مجالَ فيها للتكذيب، ولا حتى للشكِّ في أمرها.
لذلك وصف الذين يجادلون فيها مجرد جدال بأنهم في ضلال بعيد {أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} والمراء: هو الجدل العقيم الذي لا يوصل إلى الحقيقة.
ووصفهم بأنهم في ضلال بعيد، لأن مجرد النظر العقلي يثبت يوم القيامة وضرورته بالنسبة للحياة الدنيا، فلو تأملوا واقع حياتهم لوجدوا أنهم في أمور دنياهم يأخذون بمبدأ الثواب والعقاب، فلا بدَّ لتستقيم الأمور من مجازاة المحسن بإحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته.
في واقع حياتهم تعليم وتلاميذ في المدارس يُجرون لهم اختبارات شهرية يُصوَّب فيها الخطأ بالأحمر ليعرف التلميذ خطأه ويُصححه، أما في امتحان آخر العام فلا تُصوَّب الأخطاء، إنما تُعطى عليها درجة يترتب عليها نجاح أو رسوب، هذا هو الحساب والجزاء.
فإذا كنتم تفعلون ذلك في أمور دنياكم، فلِمَ تكذبون به مع الله عز وجل، وفي البشر في رحلة الحياة المؤمن والكافر والطائع والعاصي والمجرم والمحسن، كيف إذن يتساوى كُلُّ هؤلاء؟
الرجل الذي قال: لن يموت ظَلُومٌ حتى ينتقم الله منه، لأن العقل يقول ذلك ولا يصح أنْ يفلت بجرائمه دون عقاب، فلما رأى ظالماً مات سالماً لم يُصِبْه شيء قال ماذا؟ قال: لا بدّ أن وراء هذه الدنيا حياةً أخرى يُعاقب الظالم على ظلمه، لا بدَّ وإلا فقد فاز المجرمون الظالمون وأفلتوا بجرائمهم، وضاع حَقُّ المظلومين والضعاف في الدنيا وفي الآخرة.