وكانت [ مناة ] بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة . وكانت خزاعة والاوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
وكان بالجزيرة كثير من هذه المعبودات تعظمها القبائل المختلفة . ولكن هذه الثلاثة كانت أعظمها .
والمظنون أن هذه المعبودات كانت رموزا لملائكة يعتبرهن العرب إناثا ويقولون : إنهن بنات الله . ومن هنا جاءت عبادتها ، والذي يقع غالبا أن ينسى الأصل ، ثم تصبح هذه الرموز معبودات بذاتها عند جمهرة العباد . ولا تبقى إلا قلة متنورة هي التي تذكر أصل الأسطورة !
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن ، عليه [ الصلاة و ] {[27643]} السلام : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ } ؟ وكانت " اللات " {[27644]} صخرةً بيضاء منقوشة ، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة ، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش .
قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله [ تعالى ] {[27645]} ، فقالوا : اللات ، يعنون مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا . وحكي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن أنس : أنهم قرؤوا " اللاتّ " بتشديد التاء ، وفسروه بأنه كان رجلا يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق ، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه .
وقال البخاري : حدثنا مسلم - هو ابن إبراهيم - حدثنا أبو الأشهب ، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس{[27646]} : { اللاتَ وَالْعُزَّى } قال : كان اللات رجلا يلت السَّويق ، سويق الحاج{[27647]} .
قال ابن جرير : وكذا العُزَّى من العزيز .
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، وهي بين مكة والطائف ، كانت قريش يعظمونها ، كما
قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزَّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم " {[27648]} .
وروى البخاري من حديث الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف فقال في حلفه : واللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله . ومن قال لصاحبه : تعال أقَامرْك ، فليتصدق " {[27649]} .
وهذا محمول على من سبق لسانه في{[27650]} ذلك ، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ، كما قال النسائي : أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا حدثنا مَخْلَد ، حدثنا يونس ، عن أبيه ، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى ، فقال لي أصحابي : بئس ما قلت ! قلت هجرا ! فأتيت رسول صلى الله عليه سلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : " قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم لا تعد " {[27651]} .
وأما " مناة " فكانت بالمُشَلَّل {[27652]} - عند قُدَيد ، بين مكة والمدينة - وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة . وروى البخاري عن عائشة نحوه {[27653]} . وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها .
قال ابن إسحاق في السيرة : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، بها {[27654]} سدنة وحجاب ، وتهدي لها كما يهدى {[27655]} للكعبة ، وتطوف بها كطَوْفَاتِها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها ؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم ، عليه السلام ، ومسجده . فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة ، وكانت سدنتها وحجابها {[27656]} بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم{[27657]} .
قلت : بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها ، وجعل يقول :
يا عُزَّ ، كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك *** إني رأيت الله قَدْ أهَانَك
وقال النسائي : أخبرنا علي بن المنذر ، أخبرنا ابن فُضَيْل ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع ، عن أبي الطُّفَيْلِ قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى ، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات ، فقطع السَّمُرات ، وهدم البيت الذي كان عليها . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " ارجع فإنك لم تصنع شيئًا " . فرجع خالد ، فلما أبصرته السَّدَنة - وهم حَجَبتها - أمعنوا في الحِيَل وهم يقولون : " يا عزى ، يا عزى " . فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن {[27658]} التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : " تلك العزى " {[27659]} .
قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سَدَنتها وحجابها بنى مُعَتّب{[27660]} .
قلت : وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب ، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف .
قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشَلّل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إليها ]{[27661]} أبا سفيان صخر بن حرب ، فهدمها . ويقال : علي بن أبي طالب .
قال : وكانت ذو الخَلَصة {[27662]} لدَوس وخَثعم وبَجِيلة ، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة .
قلت : وكان يقال لها : الكعبة اليمانية ، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية .
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه .
قال : وكانت فَلْس{[27663]} لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من{[27664]} سَلمى وأجا .
قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه ، واصطفى منه سيفين : الرّسُوب والمخْذَم ، فَنفَّله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهما سيفا علي{[27665]} .
قال ابن إسحاق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له : ريام . وذكر أنه كان به كلب أسود ، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه ، وهدما البيت .
قال ابن إسحاق : وكانت " رُضَاء " بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام :
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّةً *** فَتَرَكْتُها قَفْرًا بِقَاع أسحَمَا
قال ابن هشام : إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين{[27666]} سنة ، وهو القائل :
وَلَقَد سَئِمْتُ مِنَ الحيَاةِ وَطُولِهَا *** وَعُمّرْتُ منْ عَدَد السّنِينَ مِئِينَا
مائَةً حَدّتها بَعْدَها مائَتَان لي*** وازددت{[27667]} مِنْ عَدَد الشّهور سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِي إلا كَمَا قَدْ فَاتَنَا *** يَومٌ يَمُرُّ وَلَيلةٌ تَحْدُونَا
قال ابن إسحاق : وكان ذو الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل ، وإياد بِسَنْداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة :
بَيْنَ الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ *** والبيت ذو الكَعَبَات من سَنْدَاد{[27668]}
ولهذا قال [ تعالى ] {[27669]} : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } ؟ .
وأما { مناة } فكانت بالمشلل من قديد ، وذلك بين مكة والمدينة ، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً ، وكانت الأوس والخزرج تهل لها ، ولذلك قال تعالى : { الثالثة الأخرى } فأكدها بهاتين الصفتين ، كما تقول رأيت فلاناً وفلاناً ثم تذكر ثالثاً أجل منهما ، فتقول وفلاناً الآخر الذي من أمره وشأنه .
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكدم : [ الكامل ]
*ولقد شفعتهما بآخر ثالث*{[10706]}
وهو التأويل الصحيح في قول الشاعر [ عبيد بن الأبرص ] : [ مجزوء الكامل ]
جعلت لها عودين من*** نشم وآخر من ثمامه{[10707]}
وقرأ ابن كثير وحده : «ومناءة » بالهمز والمد وهي لغة فيها ، والأول أشهر وهي قراءة الناس ، ومنها قول جرير : [ الوافر ]
أزيد مناة توعد بابن تيم*** تأمل أين تاه بك الوعيد{[10708]}