لما ذكر الله تعالى عبده وخليله ، إبراهيم عليه السلام ، وذكر ما مَنَّ الله عليه به ، من العلم والدعوة ، والصبر ، ذكر ما أكرمه الله به من الذرية الصالحة ، والنسل الطيب . وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله ، وأعظم بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة ، التي لا يدرك لها نظير فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ابنه ، الذي هو إسرائيل ، أبو الشعب الذي فضله الله على العالمين .
{ كُلًّا } منهما { هَدَيْنَا } الصراط المستقيم ، في علمه وعمله .
{ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } وهدايته من أنواع{[298]} الهدايات الخاصة التي لم تحصل إلا لأفراد من العالم ؛ وهم أولو العزم من الرسل ، الذي هو أحدهم .
{ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح ، لأنه أقرب مذكور ، ولأن الله ذكر مع من ذكر لوطا ، وهو من ذرية نوح ، لا من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه .
ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لأن السياق في مدحه والثناء عليه ، ولوط -وإن لم يكن من ذريته- فإنه ممن آمن على يده ، فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك ، أبلغ من كونه مجرد ابن له .
{ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } بن داود { وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ } بن يعقوب . { وَمُوسَى وَهَارُونَ } ابني عمران ، { وَكَذَلِكَ } كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل ، لأنه أحسن في عبادة ربه ، وأحسن في نفع الخلق { كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } بأن نجعل لهم من الثناء الصدق ، والذرية الصالحة ، بحسب إحسانهم .
وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله [ ص ]
- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين ( من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) . . والتعقيبات على هذا الموكب : ( وكذلك نجزي المحسنين ) . ( وكلا فضلنا على العالمين ) . . ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، بعد أن طَعَن في السن ، وأيس هو وامرأته " سارة " من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك ، وقالت : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود : 72 ، 73 ] ، وبشروه{[10946]} مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعَقِبا ، كما قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] ، وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة ، وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده ، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه ، وقعت البشارة به وبولده باسم " يعقوب " ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم ، عليه السلام ، حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله ، عَزَّ وجل ، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال [ تعالى ]{[10947]} { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [ مريم : 49 ] ، وقال هاهنا : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا }
وقوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه ، ووهبنا له ذرية صالحة ، وكل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح ، عليه السلام ، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذرية نوح ، وكذلك الخليل إبراهيم ، عليه السلام ، لم يبعث الله ، عَزَّ وجل ، بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } الآية [ العنكبوت : 27 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ الحديد : 26 ] ، وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } أي : وهدينا من ذريته { دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } الآية ، وعود الضمير إلى " نوح " ؛ لأنه أقرب المذكورين ، ظاهر . وهو اختيار ابن جرير ، ولا إشكال عليه . وعوده إلى " إبراهيم " ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن ، لكن يشكل على ذلك " لوط " ، فإنه ليس من ذرية " إبراهيم " ، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر ؛ اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبًا ، كما في قوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] ، فإسماعيل عمه ، ودخل في آبائه تغليبا .
[ وكما قال في قوله : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ } [ الحجر : 30 ، 31 ] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود ، وذم على المخالفة ؛ لأنه كان قد تشبه بهم ، فعومل معاملتهم ، ودخل معهم تغليبا ، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور ]{[10948]}
وفي ذكر " عيسى " ، عليه السلام ، في ذرية " إبراهيم " أو " نوح " ، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال ؛ لأن " عيسى " ، عليه السلام ، إنما ينسب إلى " إبراهيم " ، عليه السلام ، بأمه " مريم " عليها السلام ، فإنه لا أب له .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا علي ابن عابس{[10949]} عن عبد الله بن عطاء المكي ، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يَعْمُر فقال : بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله ، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } حتى بلغ { وَيَحْيَى وَعِيسَى } ؟ قال : بلى ، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال : صدقت .
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته أو وهبهم ، دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأجانب{[10950]}
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيه أيضا ، لما ثبت في صحيح البخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " {[10951]} فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء .
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا } أي كلا منهما . { ونوحا هدينا من قبل } من قبل إبراهيم ، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد . يتعدى إلى الولد . { من ذريته } الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه . وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم ، فلو كان لإبراهيم ، اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحا . { داود وسليمان وأيوب } أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق . { ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم .
{ ووهبنا } عطف على { آتينا } [ الأنعام : 83 ] و { إسحاق } ابنه من سارة ، { ويعقوب } هو ابن إسحاق ، و { كلاً } و { نوحاً } منصوبان على المفعول مقدمان على الفعل ، وقوله : { من قبل } لقومه صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { ومن ذريته } المعنى وهدينا من ذريته ، والضمير في { ذريته } قال الزجّاج جائز أن يعود على إبراهيم ، ويعترض هذا بذكر «لوط » عليه السلام وهو ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال أباً وقيل : يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد ، و { داود } يقال هو ابن أيشى{[4999]} { وسليمان } ابنه ، { وأيوب } هما فيما يقال أيوب بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، { ويوسف } هو ابن يعقوب بن إسحق ، { وموسى وهارون } ها ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، ونصب { دواد } يحتمل أن يكون ب { وهبنا } ويحتمل أن يكون ب { هدينا } وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف ، فهي غير مصروفة ، { وموسى } عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف في النكرة ، وقيل وزنه فعلى ، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا نكرة ، { وكذلك نجزي المحسنين } وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عمله وترغيب في الإحسان .