فبرأ نفسه مما رمته به ، وقال : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم يعلم أيهما .
ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه ، قد يعلمها العباد وقد لا يعلمونها ، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما ، تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام ، فانبعث شاهد من أهل بيتها ، يشهد بقرينة من وجدت معه ، فهو الصادق ، فقال : { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها ، المراود لها المعالج ، وأنها أرادت أن تدفعه عنها ، فشقت قميصه من هذا الجانب .
ويجهر يوسف بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل :
( قال : هي راودتني عن نفسي ) !
وهنا يذكر السياق أن أحدا أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع :
( وشهد شاهد من أهلها . إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ؛ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) . .
فأين ومتى أدلى هذا الشاهد بشهادته هذه ؟ هل كان مع زوجها [ سيدها بتعبير أهل مصر ] وشهد الواقعة ؟ أم أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر ، كما يقع في مثل هذه الأحوال ان يستدعي الرجل كبيرا من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى ، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة القيم !
هذا وذلك جائز . وهو لا يغير من الأمر شيئا . وقد سمي قوله هذا شهادة ، لأنه لما سئل رأيه في الموقف والنزاع المعروض من الجانبين - ولكل منها ومن يوسف قول - سميت فتواه هذه شهادة ، لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه .
فإن كان قميصه قد من قبل فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب .
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب ، يوسف هارب ، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت ، فلحقته في أثناء ذلك ، فأمسكت بقميصه [ من ورائه ]{[15136]} فَقَدَّته{[15137]} قدًا فظيعا ، يقال : إنه سقط عنه ، واستمر يوسف هاربا ذاهبا ، وهي في إثره ، فألفيا سيدها - وهو زوجها - عند الباب ، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } أي :{[15138]} فاحشة ، { إِلا أَنْ يُسْجَنَ } أي : يحبس ، { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يضرب ضربا شديدًا موجعا . فعند ذلك انتصر يوسف ، عليه السلام ، بالحق ، وتبرأ مما رمته به من الخيانة ، وقال بارا صادقا{[15139]} { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ } أي : من قدامه ، { فَصَدَقَتْ } أي : في قولها إنه أرادها على نفسها ، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره ، فقدت قميصه ، فيصح ما قالت : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وذلك يكون كما وقع لما هرب منها ، وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لتردّه إليها ، فقدت قميصه من ورائه .
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير ، على قولين لعلماء السلف ، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال : ذو لحية .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا .
وقال زيد بن أسلم ، والسدي : كان ابن عمها .
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك .
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال : كان صبيا في المهد . وكذا رُوي عن أبي هريرة ، وهلال بن يَسَاف ، والحسن ، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار . واختاره ابن جرير .
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " تكلم أربعة وهم صغار " ، فذكر فيهم شاهد يوسف{[15140]} .
ورواه غيره عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جُرَيْج ، وعيسى ابن مريم{[15141]} .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : كان من أمر الله ، ولم يكن إنسيا . وهذا قول غريب .
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ } أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به ، { قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ } أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن ، { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }
ثم قال آمرا ليوسف ، عليه السلام ، بكتمان ما وقع : يا { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]{[15142]} صفحا ، فلا تذكره لأحد ، { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه ، فقال لها : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } أي : الذي{[15143]} وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ، ثم قَذْفه بما هو بريء منه ، استغفري من هذا الذي وقع منك ، { إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
{ قال هي راودتني عن نفسي } طالبتني بالمؤاتاة ، وإنما قال ذلك دفعا لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم ، ولو لم تكذب عليه لما قاله . { وشهد شاهد من أهلها } قيل ابن عم لها . وقيل ابن خال لها صبيا في المهد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " تكلم أربعة صغارا ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام " وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها . { إن كان قميصه قُدّ من قبُل فصدقت وهو من الكاذبين } لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها ، أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.